على مدى 17 شهرا، تستمر وتتصاعد أبشع جريمة بحق 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة والمواطنين في مخيمات ومدن شمال الضفة الغربية. وبموقف غير مبالٍ، يتعايش النظام الدولي مع حرب إبادة تحصد عشرات الآلاف وتشرد وتدوس على الحق في الحياة والغذاء والعلاج والعيش في أماكن آمنة، يتعايش النظام الدولي مع استمرار قتل الأطفال والأبرياء ومع تشريدهم وتجويعهم وإذلالهم، ويتحول إلى شاهد زور لا يحرك ساكنا لوقف هذه الإبادة والكارثة، رغم الإقرار بأن ما يجري هو جريمة بحق الإنسانية. وجه الغرابة هو استماع مجلس الأمن لأسير إسرائيلي مفرج عنه يشكو من سوء معاملة آسريه وانتهاكاتهم، في الوقت الذي يُقتل فيه الأطفال بالمئات دون تدخل لحمايتهم. والأكثر غرابة في كل ما يحدث هو غياب المبادرات الفلسطينية التي تحاول قطع الطريق على النتائج المأساوية لهذه الحرب المدمرة من خلال خطوات ورؤية سياسية، باستثناء المبادرات التي تبُرر عمليا احتكار «حماس» لقرار الحرب واللا حرب، وبقاءها خارج الشرعية.
بعد مرور 17 شهرا على حرب الإبادة، لا يزال «الفهم القاصر» لإسرائيل وحربها ومكانتها ودورها في الغرب والإقليم سيد الموقف، المترافق مع فهم قاصر للذات وتحديدا لمحور المقاومة والممانعة الذي تقوده إيران. الفهم القاصر دفع أصحابه إلى دخول حرب مواجهة مفتوحة مع أعتى وأشرس قوة في المنطقة، هو ذاته الذي استنتج أصحابه بعد سنة ونصف السنة من الحرب أن «دولة الاحتلال لا تقوى على تجديد الحرب، لأنها في حالة انقسام داخلي قد يصل إلى عصيان مدني وحرب أهلية، ولأن الجيش الإسرائيلي مستنزف وغير قادر على حرب طويلة لن يحقق فيها ما لم يحققه خلال 15 شهرا من القتال. أصحاب الفهم القاصر يرون في الجهة المقابلة أن «الشعب صامد والمقاومة قادرة على تكبيده خسائر بشرية بعد أن أعادت تنظيم صفوفها وعوضت الخسائر التي لحقت بها».
الواقع الميداني والخطط الإسرائيلية المعلنة تقول عكس ذلك، حيث بدأ جيش الاحتلال بتجديد سيطرته العسكرية على قطاع غزة في خطوات متلاحقة، وشرع بتهجير السكان من الشمال والجنوب، ويتحكم في المساعدات الإنسانية والوقود والكهرباء والماء، ويوجه ضربات عسكرية شديدة. تقول صحيفة «هآرتس»، إن رئيس الأركان الجديد الكاهاني إيال زامير حدد خططا فاشية مجنونة للحفاظ على الحصار اللوجستي وتصعيد الضغط العسكري بهدف تأمين إطلاق الرهائن وتحقيق جميع أهداف الحرب. وقد مارس قتلا مروعا خلال أيام قليلة دون تمييز لمئات المدنيين الذين «تستخدمهم (حماس) كدروع بشرية» كما يقول، فضلا عن استهداف قيادة «حماس» السياسية والأمنية والمدنية، فقد اغتالت آلة الحرب ستة من المكتب السياسي لحركة حماس في الهجمات الأخيرة. وفي تطور لافت، أنشأت حكومة نتنياهو إدارة خاصة للإشراف على خطة تهجير المواطنين الغزيين، وفي السياق ذاته، اقر المجلس الحكومي المصغر مشروع سموتريتش باستقلال 13 مستوطنة في الضفة الغربية كخطوة في الطريق نحو الضم وفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.
الواقع يقول، إن حكومة نتنياهو تواصل الحرب وقد غيرت قواعدها وسط اختلال فادح وفارق فلكي في موازين القوى وبخاصة بعد دعم إدارة ترامب لها بنسبة 100% كما يقول ويتكوف. وبعد هزيمة جزئية أو كلية لمحور المقاومة والممانعة وإخراجه من المعركة ما عدا الحوثيين الذين أخذت إدارة ترامب على عاتقها مهمة ردعهم. حكومة نتنياهو تدعو إلى الإفراج عن الرهائن مقابل إدخال المساعدات الإنسانية ووقف إطلاق النار، وتدعو إلى نزع سلاح المقاومة وإبعاد الكادر العسكري وإنهاء حكم «حماس» واستبداله مقابل إنهاء الحرب والانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.
أسئلة كثيرة يطرحها الواقع وهي غير قابلة للتأجيل. من يستطيع إثبات أن إسرائيل عاجزة أو نصف عاجزة عسكريا عن مواصلة الحرب بسبب خسائرها أو أزمتها الداخلية وهي التي توحدت بعد 7 أكتوبر كما لم تتوحد من قبل، وما زالت موحدة على حرب الإبادة، فقط هناك خلاف على أولوية الحصول على الرهائن بالاتفاق وبعد ذلك مواصلة الحرب في مواجهة معسكر نتنياهو الذي يرغب في تحقيق جميع الأهداف بالحرب ويستخدم الحرب في الحفاظ على الائتلاف الحاكم وفي مواصلة انقلابه على القضاء و»الشاباك»، وفي الإفلات من التحقيق في 7 أكتوبر وقضايا الفساد. لا يوجد عاقل يجرؤ على مواصلة حرب أو وضعها كخيار إيجابي بعد كل الذي حدث، فلا يمكن لهذا النوع من الحرب، أن يحسن أو يغير شيئا في نتائجها الحالية واللاحقة. ولا يمكن انتظار حدوث تطور إيجابي أو التقليل من الاحتمالات السلبية المنظورة مع كل يوم تستمر فيه الحرب. الفرصة الوحيدة التي يستطيع من خلالها الشعب الفلسطيني وحركته السياسية المساهمة في وقف نزيف الدم والإبادة وقطع الطريق على إعادة احتلال قطاع غزة وتهجير سكانه ووقف التصفية والتطهير العرقي والضم في الضفة الغربية، تكون بإعلان فلسطيني صريح تشارك فيه كل أو معظم القوى السياسية يلتزم بالانتقال من شكل النضال المسلح والمقاومة المسلحة إلى النضال السياسي والجماهيري السلمي. ينطوي الإعلان على اعتراف بهزيمة المقاومة المسلحة لكنه لا ينطوي على استسلام. كل حركات التحرر والشعوب في سياق تحررها انتقلت من النضال المسلح إلى النضال السلمي وفي مرات كثيرة انتزعت حريتها واستقلالها عبر هذا الشكل. إن وقف نزيف الدم والتشريد والإذلال والقهر والشعور بالعجز، لملايين الفلسطينيين يعد إنجازا ما بعده إنجاز، وبخاصة بعد ما ثبت أن صراعنا مع الاحتلال لا يحقق أهدافه المشروعة بحروب المواجهة العسكرية أو بالضربة القاضية بل بانتزاع النقاط ومراكمتها على مدى طويل. على قاعدة النضال السلمي تستطيع الشرعية الفلسطينية طلب الحماية الدولية في إطار الأمم المتحدة، وهو مطلب مشروع ويشكل مساهمة في إزالة نتائج حرب الإبادة.
الخطوة الأساسية الثانية هي تحقيق وحدة وطنية حقيقية من خلال: «فتح الباب أمام جميع الفصائل للانضواء في المنظمة على قاعدة برنامجها السياسي والتزاماتها الدولية، والشرعية الدولية، ومبدأ النظام الواحد والقانون الواحد والسلاح الشرعي الواحد، وتمثيلها الشامل لكل أبناء شعبنا» كما ورد في بيان اللجنة التنفيذية الأخير. وحدة وطنية تضع حدا لاستفراد «حماس» بقرار الحرب والهدنة والدخول في محاور إقليمية، وبتشكيلها مركزا موازيا وغير مستقل للشرعية الفلسطينية. إن الالتزام بما سبق يزيل العقبات أمام الوحدة السياسية والوطنية ويسرع في تحقيقها. اما الدعوة إلى حكومة وفاق وإطار قيادي موحد واشتراط دخول المنظمة بإجراء إصلاحات مسبقة بمعزل عن التزام «حماس» بالشرعية الفلسطينية والدولية. هذا الموقف يعني الانحياز الصريح ضد الشرعية والمساهمة في إضعافها والانقلاب عليها في لحظة تتولى فيها حكومة نتنياهو إضعافها وتفكيكها وشطبها، هذا الموقف يتجاهل حقيقة وجود شبه إجماع دولي على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة العام 1967. ذلك الموقف الدولي الذي انبنى على الشرعية الفلسطينية الملتزمة بالقانون الدولي والتي أصبحت عضوا في معظم المؤسسات الدولية. أما الإصلاح والديمقراطية في المؤسسة الفلسطينية ودور مختلف الأطراف فيحتاج إلى معالجة مستقلة.