بعد أقل من أسبوع على إلقائه القنبلة السياسية التي أحدثت صخباً، بل دواراً وصداعاً سياسياً في كل الشرق الأوسط، وكما هي عادته، بدأ دونالد ترامب بالتراجع قليلاً عما أعلنه من خطة لتهجير سكان قطاع غزة، تعبيراً عن طموحه في عقد «صفقة عقارية» حسب وصفه هو لاحقاً، وكما سبق له قبل أيام التراجع عن تصريحاته تجاه قناة بنما، وكل من كندا والمكسيك، أعلن الرجل يوم الجمعة الماضي، بأنه ليس مستعجلاً بشأن خطة تهجير سكان قطاع غزة، فيما كان أعضاء إدارته يتسابقون في محاولة يائسة لاحتواء ردود الفعل، بالتشبث بها من جهة القول بأن الدول العربية المعنية بالتنفيذ ستوافق عليها في نهاية الأمر، ومن جهة أخرى باقتراح دول أخرى لاستقبال من يتم تهجيرهم من سكان القطاع، وهم أغلبية سكانه كما تقول به الخطة صراحة ودون مواربة، ثم أخيراً من خلال تخفيف اللهجة، بالحديث عن الدافع الإنساني وراء المقترح الخبيث، وكل هذا يعني بأن الخطة تتحول شيئاً فشيئاً الى مقترح تفاوضي مع العرب على طريق المقايضة، مقايضة التراجع عن خطة التهجير بدفع عجلة التطبيع المجاني مثلاً، أو حتى مقايضة التهجير بالموافقة أو غض النظر أو عدم المعارضة القوية للاستيطان أو حتى لضم جزئي مرتقب لأجزاء من الضفة الفلسطينية.
وبالعودة الى خطة ترامب نفسها، لا بد من القول بأنه في السياسة هناك حرب موازية لميدان المواجهة، تجري على الجانب السياسي بالترافق مع القتال العسكري، ومن هناك جاءت خطة ترامب، حيث سعى وهو شريك في الحرب مع مجرميها الإسرائيليين، الى تحقيق ما عجزت عنه آلة الحرب العسكرية/الأميركية عسكرياً، وذلك بخطته السياسية، والتي ضمنها «دافعاً إنسانياً» كاذباً بالطبع، لكننا هنا، سنجاريه ونفترض سذاجته هو وإدارته، وسنفترض حتى حسن النية لديهما، بأن الدافع لطرح تلك الخطة، له علاقة بانعدام مرافق الحياة في قطاع غزة، وتسهيل إعادة الإعمار، رغم أن ترامب نفسه قال عكس ذلك حين صرح بأن مغادرة سكان القطاع نهائية، أي بلا عودة، وأن الهدف من إعادة إعمار غزة هو تحويلها الى «ريفيرا شرق الأوسط»، اي كمنتج سياحي، يكون له هو شخصياً حصة فيها.
والحقيقة أن «قنبلة ترامب» بقدر ما أحدثته من صدمة في كافة أرجاء الكون، كونها تدل على إدارة أميركية لا تتورع عن المشاركة علناً في جريمة الحرب، وهي تفعل ذلك في نفس الوقت الذي فرضت فيه العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، بقدر ما تكشف عن وجاهة سؤال إعادة إعمار قطاع غزة، لهذا ولأسباب أخرى عديدة، أهمها أن ندخل الى داخل المقترح لتفكيكه والاشتباك معه، حيث لا بد لنا أن نلاحظ التالي: أولاً: التهجير القسري يعتبر جريمة حرب بدون أي شك، ومن يدعو له ومن يشارك في تنفيذه، يعتبر في نظر القانون الدولي مجرم حرب يتعرض للمساءلة الدولية، ثانياً: التهجير الطوعي، لا يمكن اعتباره طوعياً بعد تدمير مقومات الحياة في قطاع غزة، بشكل قصدي، وبناء على ذلك يجب على المجتمع الدولي وفي مقدمته أميركا أن يلزم إسرائيل بإعادة الإعمار.
ومن أجل نفي صفة التهجير القسري، لا بد أن تكون هناك ضمانات مؤكدة في أمرين، هما: أولاً أن تكون عملية إعادة الإعمار سريعة، بأقل وقت ممكن، وأن تجري على مراحل ووفق خطة تفصيلية واضحة، مؤكدة التنفيذ، وثانياً تؤكد قولاً وفعلاً عودة السكان ليس لأرضهم وحسب، بل لمنازل بديلة تقام في مكان منازلهم، وعلى قطع الأرض الخاصة بهم التي يمتلكونها، بل يمكن وحيث أمكن أن تتضمن خطة الإعمار أن يمنح معظم السكان الأموال الكافية ليقوموا بإعادة بناء منازلهم بأنفسهم، وهنا يمكن فقط الحديث عن انتقال سكاني داخل الوطن الفلسطيني، وهذا يعني كما يحدث في كل دول العالم، حين يجري تحديث مناطق سكانه، بهدف التطوير أن يمنح المتضررون منازل بديلة أو مؤقتة، داخل المنطقة ذاتها، أو على أبعد تقدير داخل الوطن نفسه.
هكذا يمكن مثلا أن تبدأ عملية الإعمار داخل قطاع غزة بمنطقة الجنوب أو الوسط، بمدينة غزة أو المحافظة الوسطى، المهم أن لا تبدأ بمحافظة الشمال، لأن في ذلك احتمال الذهاب لخطة الجنرالات وهي خطة تطهير عرقي جماعي، اي جريمة حرب، تماماً كما فعل الجيش الإسرائيلي نفسه خلال الحرب، وأجبر السكان على النزوح من الشمال والوسط الى الجنوب، لتنفيذ ما اسماه بالعملية البرية العسكرية، فلم لا يجر فعل الترتيب نفسه، في عملية إعادة الإعمار، ولكن بتسلسل عكسي.
ويمكن أيضا وعلى اعتبار أن قطاع غزة مكتظ بالسكان، وهناك حاجة فورية للعديد من الخدمات مثل التعليم والصحة، أن تترافق عملية نقل جزئي للسكان من الجنوب الى الوسط والشمال، مع نقل جزء مهم من سكان القطاع داخل الوطن الفلسطيني، أي الى الضفة الفلسطينية والقدس، حيث لن يعتبر ذلك لا تهجيراً، ولا ينطوي على خطر تصفية القضية الفلسطينية، وموافقة أميركا وإسرائيل على ذلك ستؤكد حسن نية ترامب وإدارته، وستعني بأن الجانب العربي والفلسطيني لديه المقترحات العملية القابلة للتنفيذ، وبالطبع الضفة الفلسطينية بما فيها القدس مع قطاع غزة، أي كل شبر أرض محتل منذ عام 1967، يعتبر ضمن أو داخل حدود الوطن الفلسطينية، وضمن ولاية الدولة الفلسطينية.
وفي الضفة الفلسطينية يمكن لمن ينتقل لها من سكان غزة، أن يمارس حياته بشكل طبيعي، ويمكن للأطفال أن ينخرطوا في المدارس بكل مراحلها، ويمكن للمواطنين أن يتمتعوا بالخدمات الصحية، بل يمكن للموظفين أن يقوموا بأداء مهمات عملهم بشكل طبيعي وتلقائي، وكل هذا يحدث في ظل تولي السلطة الفلسطينية المسؤولية الرئيسية في عملية إعمار قطاع غزة، وحيث يمكن لسكان غزة أنفسهم ممن انتقلوا للإقامة المؤقتة في وسط وشمال القطاع أو في الضفة الفلسطينية، أن ينتقلوا بحرية داخل الوطن الفلسطيني لمتابعة مراحل إعادة الإعمار، بحيث يمكن لمن تنتهي إعادة الإعمار في منطقته أن يعود اليها، وهكذا تكون عملية العودة للحياة الطبيعية في قطاع غزة قد جرت بشكل سلس وتدريجي، خاصة اذا ما ترافق كل ذلك بجهد تفاوضي إقليمي على الحل السياسي التاريخي الذي ينتهي بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود العام 1967.
ومع إشراف السلطة الفلسطينية على إعادة إعمار قطاع غزة، وإدارة عملية انتقالات السكان البينية داخل حدود الوطن الفلسطيني، وبالترافق مع مفاوضات الحل الإقليمية، يجري تدشين إقامة الدولة المستقلة بكل مظاهرها السياسية والدبلوماسية بدءاً من قطاع غزة، تماماً كما جرى الأمر بعد اتفاق إعلان المبادئ عام 1994، مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، أي أن تتضمن إعادة الإعمار مع عودة السلطة للقطاع، إعادة بناء مطار غزة، وتدشين ميناء غزة، كذلك العمل مع تقدم المفاوضات على فتح الحدود البحرية والجوية والبرية أمام «دولة فلسطين»، حيث يمكن لحكومتها أن تنتقل بكاملها أو بجزء منها للإقامة في مدينة غزة، ذلك أن رام الله هي مثل غزة، وكلاهما عاصمة مؤقتة الى حين التوصل للحل الذي يتضمن ان تكون القدس الشرقية المحتلة عاصمة لدولة فلسطين.
ويمكن لحكومة السلطة وهي تتابع ملف إعادة الإعمار، وبالتوازي مع الضغط على الجانب الإسرائيلي لتحمل تكاليف إعادة الإعمار، باعتباره هو من تسبب بالدمار، ومن قام به أصلاً، أن تباشر باستخراج الغاز المملوك لها، قبالة شاطئ غزة، كذلك أن تحرص على أن تتضمن إعادة الإعمار مشاريع سياحية وزراعية وتكنولوجية، وتقوم بتقديم عروض لشركات الاستثمار المحلية والإقلمية وحتى الدولية بما يتوافق مع شروط السيادة الوطنية، للمشاركة في إعادة الإعمار، حتى لا ترتهن العملية بتبرعات الدول العربية وغيرها، والتي في أحسن أحوالها تتلكأ، وتقدم «من الجمل إذنه» كما حدث في الماضي، إزاء مشاريع إعادة الإعمار لغزة بعد الحروب الإسرائيلية السابقة عليها، والتي كانت تحدث دماراً جزئياً، لم يكن بالطبع كما هو حال الدمار الحالي.
بهذا الأفق السياسي يمكن الرد على خطة ترامب، وبنفس الوقت يمكن متابعة طريق الحل السياسي المنشود، على قاعدة مشاركة جميع المعنيين في الشرق الأوسط بترتيب شؤونه نحو الأمن والاستقرار، وكل هذا يبدأ بالرد على محاولة ترامب_نتنياهو ترتيب الإقليم من طرف واحد، وبالنيابة عن الجميع، وبما يبدأ بتجاوز الحق الفلسطيني في الحرية والاستقلال، ولا ينتهي بفرض الوصاية والسيطرة والهيمنة الإسرائيلية_الأميركية على كل دول وشعوب الشرق الأوسط العربية والإسلامية، ونهب ثرواتها واستعباد شعوبها، بل وأبعد من ذلك _ربما تجريب أن يبدأ ترامب وإيلون ماسك بإقامة المشاريع الخاصة في الشرق الأوسط لصالح أعمالهما الخاصة، مستخدمين نفوذهما الرسمي وموقعهما في إدارة أقوى دولة في العالم.