الكوفية:ولما كان اليوم التاسع والسبعون بعد المائتين، للإبادة الجماعية، التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيليّ، بشكل وحشيّ، على شعب غزة الأبيّ، وفي يوم الأحد، الحادي عشر من آب، من العام ألفين وأربعة وعشرين ميلادي، والسابع من صفَر، من العام ألف وأربعمائة وستة وأربعين هجري؛ الذي شهد مجزرة مريعة، في شارع النفق بمدينة غزة، ارتكبها جيش الاحتلال، في مدرسة التابعين؛ بلغ ضحاياها حدّ المائة شهيد وشهيدة من المدنيين؛ ممن تقطّعت أوصالهم، أو تبخّرت جثثهم، نتيجة إلقاء قنابل مخيفة على النازحين، الذين هُجِّروا من بلدهم، وبيوتهم، وممن أصيبوا إصابات بليغة، نتيجة الانفجارات الشديدة؛ حدّثتني ميريهان فؤاد قالت: حدّثتني سميرة ستوم؛ الأستاذة الجامعية، - التي تحمل درجة الدكتوراه في اللغة العربية، والتي تدرِّس في جامعة القدس المفتوحة -، عن رحلة نزوحها من بيتها في مدينة غزة أربع مرّات، كان أولها في اليوم الحادي عشر للعدوان، وبعد أن رحل جميع أهل البيت، وجميع الجيران، وبقيت وحدها مع شقيقها جلال، من ذوي الاحتياجات الخاصة؛ لكنها وقد اشتدّ القصف العنيف، كان لا بدّ أن تأخذ قرار النزوح الأليم، الذي يمكن أن يحفظ حياتها، وحياة أعزّ أشقائها.
كان الموت من أمامها وورائها وخلفها. استُشهد عدد من جيرانها، وصديقاتها، وتلامذتها، وأحبابها؛ لكنها لم تتوقع وهي تأخذ قرارها؛ أن يمتدّ العدوان والإبادة لأكثر من واحد وخمسين يومًا، كما حدث في العام أربعة عشر وألفين.
وكان أيها الجمهور السعيد، ذو الرأي الرشيد؛ أن خرجت الدكتورة سميرة وشقيقها من بيتها، بدموع عينيها، ومعها بعض المواد الغذائية الضرورية، وبعض الملابس الصيفية، إلى أن وصلت مخيم النصيرات، حيث مكثت خمسة أيام؛ لتنزح بعدها إلى بيت صديقتها في دير البلح، وتبقى خمسة عشر يومًا؛ عادت إلى غزة بعدها، وعاد أشقاؤها. وما كادت تبلغ البيت، حتى تعاظم القصف المرعب؛ ما اضطّرّها إلى التفكير بالعودة إلى بيت صديقتها، التي استعدّت لاستضافتها وحدها، لعلمها بمرضها، الذي يحتاج عناية كبيرة ورعاية حثيثة.
وكان أن حزمت سميرة هويتها الفلسطينية، وما خفّ حمله من أغراضها الشخصية، يا سادة يا كرام، وتركت شقيقها برعاية إخوتها، واتجهت مرة ثانية إلى دير البلح، لتعاني الأمرّين؛ حيث لا ماء ولا كهرباء، ولا دواء، ولا طعام خاص؛ مما يحتاجه مرضها الخبيث. وبعد خمسين يوما عجافا، وبعد أن دخل الجيش الإسرائيلي إلى شارع البركة في دير البلح، حيث بدأ الناس يفرّون، وصوب الجنوب يتوجّهون؛ نزحت العائلة التي استضافتها إلى الزوايدة/شمال شرقي دير البلح، وتوجّهت سميرة إلى تل السلطان في رفح.
صحيح أن الأستاذة لم تجد دواءها وعلاجها الكيماويّ؛ لكنها استعادت نشاطها التطوعيّ، حين عملت مع جمعية وفاق لرعاية المرأة والطفل، التي كانت عضوًا في هيئتها الإدارية. خرجت سميرة إلى الميدان العمليّ، وبدأت بالعمل مع صديقتها بثينة رئيسة المؤسّسة، في جمع المساعدات التموينية، والمعيشية، لتوزيع خيام، وطرود غذائية، وملابس شتوية، على النازحين والنازحات، بالإضافة إلى تأسيس تكية طعام، وتنفيذ برامج دعم نفسية وأنشطة تعليمية وتربوية وطبية، وخصوصًا للأطفال، كما تطوّعت للعمل مع مؤسّسة التعاون الأهلية غير الربحية، التي كانت تنفّذ في غزة برامجها الإغاثية والتنموية.
لم يكن بوسع سميرة أن تستمر في نشاطها، دون ان تتناول دواءها. ولما كان العلاج في غزة مستحيلًا أيها الأفاضل؛ لم يكن أمامها سوى التفكير في التسجيل بالتحويلة خارج البلاد كي تستكمل علاجها.
وحين جاءت الموافقة على طلبها للخروج مع مرافقة من عائلتها؛ توجّهت مع ابنة أخيها إلى مصر عبر معبر رفح بالملابس التي ترتديها، دون أن تتمكن من أخذ أي من أغراضها. تركت تقارير علاجها، ووصفة دوائها، الذي لا يتوفر سوى بالقدس، وتركت العديد من مقتنياتها.
كان أكثر ما أوجع سميرة وآلمها بعد نزوحها أيها الأفاضل؛ حرق بيتها بالكامل، وعلى الأخصّ مكتبتها، التي تضمّ ما يزيد على عشرة آلاف كتاب والتي هي بمثابة مملكتها، واعتبرته أسوأ خبر سمعته في حياتها.
حُرق مرتع طفولتها، ومصدر أمانها وراحتها. حُرق سريرها، ووسادتها، ولحافها، ومكتبها. حُرقت شهادتها الجامعية، وشهادة ميلادها، وكتبها، وأوراقها، وأبحاثها، وصورها. حُرقت مطرّزاتها، التي اشتغلتها بنفسها، ومطرّزات والدتها، ومنديل عمتها، وأثواب جدتها التي حملتها ساعة تهجيرها من المجدل. حُرقت ذكرياتها، وأحلامها، ومشاريعها. حُرق قلبها، ووووووووووو وأدرك شهرزادَ الصباح، فسكتت عن الكلام الجراح.