في نهاية محاضرة له في لندن، احتار كيف يردّ على أحد المُغرضين من الحضور، عندما حاول أن يربط ما بين الإسلام وبين الإرهاب بصورةٍ «تلقائيّة»، سطحية وساذجة.. ورد الراحل الكبير محمد حسنين هيكل قائلاً: أنا لا أنكر بالمطلق أنّ ثمة علاقة بين بعض «فصائل» الإسلام، وبين الإرهاب، لكني أعتقد أنّ العالم الذي نعيش فيه اليوم لم يكن ليكون كما هو عليه لو أنّ فعل إبادة عشرات الملايين من الهنود الحُمر في أميركا كان يُبثّ على الهواء مباشرةً.
ضجّت القاعة بالتصفيق المتواصل وقوفاً لهذا الجواب الذي يُكثّف حِنكة المثقّف، وحِكمة السياسي الكاتب المُخضرَم.
سيصعب على إسرائيل الإفلات هذه المرّة.. وسيصعب أن يكون للقانون الدولي مكانة حقيقية في عالم اليوم، وفي عالم الغد إذا تلكّأ أو تردّد في إدانة دولة الاحتلال، وسيسجّل التاريخ في الحالتين جلسات هذه المحكمة وقراراتها كمفصلٍ كبير في سياق الصراع في فلسطين، وفي سياق المسار التحرُّري للشعب الفلسطينية كلّه. سيصعب كثيراً الإفلات من الوثائق التي سُجّلت على الهواء مباشرة.
تهمة الإبادة الجماعية ثابتة ثُبوتاً لا يحتاج إلى إثبات.
القتل الجماعي موثّق، واعتقال المئات والآلاف موثّق، وموثّقة تعريتهم في الساحات والميادين، وفي الشاحنات التي كانت تقلّهم مثل الأغنام في طريقها إلى المسالخ.
وموثّق بالصوت والصورة قتل الآلاف على الطرقات وهم يحاولون الهروب من مناطق القصف حسب «الإعلانات» الرسمية الإسرائيلية حول المناطق «الآمنة»، وموثّق فعل القتل والإبادة لهؤلاء الهائمين على وجوههم، وموثّق قصف مدمّر وخاص من حيث القسوة والسّاديّة لأماكن تجمّعهم الجديدة!
أي أنّ إسرائيل كانت توجّههم نحو «المناطق الآمنة» بهدف تجميعهم للقتل الجماعي تحديداً.
ومُعلن على رؤوس الأشهاد، وعلى لسان كلّ قادة إسرائيل، السياسيين والعسكريين وقادة الأذرع الأمنية، العمل القصدي المباشر لحرمان مئات الآلاف من الطعام والماء، ومن الدواء، وصولاً إلى «مقايضة» كلّ قطرةٍ من الماء والوقود، وكلّ رغيف خبزٍ باستعادة «المحتجزين».
أي أنّ دولة الاحتلال اعتبرت أنّ أكثر من مليوني عربي يجب أن يموتوا جوعاً، أو عطشاً، أو أن تفتك بهم الأمراض، وأن تتوقّف أيّ مؤسّسة صحيّة عن مداواتهم.
ولم تقتصر الجرائم الإسرائيلية على كلّ هذا الجنون والإجرام، بل إنّ إسرائيل تعمّدت، وبصورةٍ موثّقة ومعلنة على تدمير المستشفيات بحجة وجود أنفاق وقيادات مقاومة في هذه المستشفيات، وحيث لم يثبت ذلك بالمطلق بعد التدمير الكامل لأكثر من 15 مستشفى، وبعد التدمير شبه الكلّي لباقي المستشفيات في قطاع غزّة.
أمّا تدمير المساجد والكنائس والمدارس والشوارع والمؤسّسات الحكومية والأهلية، وكلّ ما يمتّ للحياة بصلة، وكلّ الأفران والمخازن ومراكز الإيواء ومؤسّسات وكالة تشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، فقد كان يتمّ على الهواء مباشرة، وما زال يجري على قدمٍ وساق، هذا إضافة إلى الأهمية الخاصة للقتل المتعمّد لعشرات الصحافيين. يُضاف إلى كلّ ذلك، وهذا الأمر بالذات ينطوي على أهمية خاصة واستثنائية، وهو التصريحات المباشرة والموثّقة حول فعل الإبادة تحديداً.
وهنا سقط معظم قادة إسرائيل في الفخّ الذي لم يحسبوا حسابه في غَمرة الجنون الذي ألمّ بهم، وراحوا يوزّعون التهديد تلو التهديد والوعيد وراء الوعيد حول الإبادة الجماعية تحديداً، من التهجير أو الموت، ومن التشرّد إلى الجوع والعطش، هذا إضافةً إلى حرق القطاع، وقتل مئة ألف بضربةٍ واحدة. وأخيراً وليس آخراً الإبادة بالقنبلة النووية.
مخطّطات التهجير معلنة ومعروفة قبل الـسابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، وهجوم حركة حماس لا يُبرّر ما قامت به إسرائيل من كلّ الزوايا التي يُعالج بها القانون الدولي هذا النوع من الأزمات، لأنّ هذا القانون يأخذ بعين الاعتبار الدوافع، كما يأخذ مقدار الفعل وردّة الفعل، إضافةً إلى مستوى التوازن بين «المتصارعين»، ويأخذ قبل كلّ شيءٍ الوضع القانوني للقطاع في ظلّ الحصار، وفي ظلّ الحروب التي شُنّت على القطاع قبل الهجوم الذي شنّته «حماس».
وبهذه المعاني كلّها فإنّ الأدلّة دامغة، والوقائع الواردة في صحيفة الدعوى موثّقة، والتصريحات طالت رئيس الدولة ورئيس الحكومة، ووزير الجيش، وكلّ قاعدة الجيش والأذرع الأمنية، وقادة الأحزاب، وأعضاء كنيست، وهي ليست تصريحات «معزولة» لمتطرّفٍ هنا، ومهووسٍ هناك، والأمر كلّه على «أعلى» المستويات الرسمية التي لا تقبل أيّ لبسٍ أو إبهامٍ أو غموض أو تفسير أو تأويل.
لا تملك إسرائيل في دفوعاتها المتوقّعة سوى التعويل على دعم الولايات المتحدة، أو محاولة التأثير على القضاة عن «طريق» البلدان التي ينتمون إليها، أو المراهنة على «فيلم وثائقي» أعدّته خصّيصاً منذ الأيّام الأولى للحرب ثبت بالدليل القاطع بُطلان محتواه، وجرى فضح محاولات تزوير الوقائع، وتراجع قيادات «الغرب» وصحافة هذا «الغرب» عن «التمسُّك» بما جاء فيه من أكاذيب وتضليلٍ لا يرقى إليها الشكّ.
وحتى أنّ محاولة اتهام دولة جنوب إفريقيا باللاسامية، والتحريض على كراهية اليهود إنّما تشكّل حالة خواءٍ كامل، وتنطُّحٍ أخرق وأحمق، لأنّ بلداً كجنوب إفريقيا، تمثّل في نظر العالم، وفي نظر القانون الدولي نفسه نموذجاً على التحرُّر من نظام الفصل العنصري، وتعتبر المصالحة التاريخية التي قامت بها هذه الدولة بالذات قيمةً إنسانية عالية، ومعياراً على التسامح والعدل في العلاقة بين الأمم والشعوب والإثنيات والأعراق ولا يمكن اتهامها باللاسامية.
وبهذه المعاني، أيضاً، فإنّ إسرائيل في مأزقٍ قانوني كبير سيكون له ما بعده إذا حكمت المحكمة لصالح جنوب إفريقيا كما هو متوقّع.
قيمة الإدانة توازي الربح الصافي لأكبر معركةٍ دبلوماسية وسياسية وقانونية منذ نكبة 1948 وحتى يومنا هذا.
فإضافة إلى القرار المستعجل الذي سيلي الإدانة مباشرة بوقف الجريمة، والذي سيضع «الغرب» كلّه في زاوية خانقة، ويضع الولايات المتحدة أمام أكبر إحراجٍ تتعرّض له في كلّ تاريخها، فإنّ الإدانة ستتحوّل إلى قاعدة ارتكازٍ صلبة لسلسلة قرارات أممية لمعاقبة إسرائيل، وربّما عدم القدرة على تقديم الدعم العسكري لها، أو تحويل مثل هذا الدعم إلى دعمٍ مشروط، وإلى دعمٍ مراقَب وتحت طائلة المساءلة.
وستتحوّل قرارات المحكمة على المدى المتوسّط والبعيد، إضافةً إلى المدى المباشر إلى قاعدة ارتكاز لمحاكمة مجرمي الحرب بصورةٍ فردية لمئات، وربّما لآلافٍ من قادة الجيش وأجهزة الأمن، ولآلافٍ من عتاة المتطرّفين في المجتمع الإسرائيلي، وخصوصاً من بين أوساط المستوطنين، استناداً إلى هذه الإدانة بالذات.
وأظنّ أنّ هذه الإدانة ستفعل فعلها على صعيد مزيدٍ من الانفكاكات بين الصهيونية واليهودية، وبين أجنحة صهيونية تقليدية وأخرى تسمّى «تلمودية» في بعض الاستخدامات الاصطلاحية، إضافةً إلى خسارات مؤكّدة في قضية «اللاسامية» التي تبتزّ بها إسرائيل العالم كلّه، وحوّلتها إلى أكبر قضية ابتزازٍ عرفتها البشرية الحديثة والمعاصرة.
معركةٌ ضارية حقّاً، وقضية حاسمة في مسار الاستقلال الوطني والتحرُّري لشعبنا كلّه، ومفصل قد يوازي النصف الآخر للحرب الدائرة.