بعد أيام من التلعثم ومحاولة تضليل الخصم، اضطرت إسرائيل إلى الإفصاح عما تنوي فعله إزاء تنامي المقاومة الفلسطينية المسلحة في الضفة الغربية، والحقيقة أن زج إسرائيل بجزء كبير من جيشها وأجهزتها الأمنية، إضافة إلى شرطتها، ثم زجها بميلشيا المستوطنين، في عملية فرض السيطرة على مدن الضفة المحتلة، وذلك منذ أكثر من عام ونصف العام مرت على إطلاق إسرائيل لعملية «كاسر الأمواج»، كل ذلك لم يجدِ إسرائيل نفعا، ولم تصمد المقاومة وحسب، بل حققت تقدما واضحا، إن كان لجهة الحفاظ على حياة المقاومين، الذين لم يعودوا استشهاديين وحسب، وبعد أن نوعت المقاومة من وسائل وأدوات مقاومتها للعدو، ولم تعد تكتفي بالسكين أو الدهس، ولا حتى بالبنادق الرشاشة، بدأت في استخدام الصواريخ محلية الصنع والمسيرات، من قبل مقاومين باتوا ينجحون في الانسحاب سالمين.
أي أن المواجهة في الضفة الغربية حامية الوطيس المتواصلة منذ آذار من العام الماضي، لم تعد تشهد وقوع الضحايا فقط في الجانب الفلسطيني، وهذا ما بدأ يذهب بعقل التطرف العنصري الإسرائيلي، الذي بعد أن تحدث طويلا عن تآكل الردع، وتحديدا بعد اجتياحات جنين ونابلس، سارع قبل أسبوع وعلى اثر عمليتي «حوارة 2» التي أوقعت قتيلين إسرائيليين في مغسلة سيارات، وعملية «كريات أربع» التي تلتها بيومين وأوقعت قتيلة مستوطنة مع جروح خطيرة لمستوطن آخر، اجتمع «الكابينت» فورا، ليرضخ لمطالبة إيتمار بن غفير الذي يطالب منذ وقت بعودة إسرائيل لتنفيذ سياسة اغتيال قيادات وكوادر التنظيمات الفلسطينية.
ولم يفصح «الكابينت» علانية أو بشكل صريح عن قراره بالعودة لسياسية الاغتيالات، لكن قراره الخاص بتخويل كل من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الجيش يوآف غالانت بملاحقة المقاومين ومرسليهم وشى بذلك، أعقبت على ما يبدو اتصالات من وراء الكواليس بين الوسطاء والإسرائيليين، حيث اتضحت نية إسرائيل في التنصل من التفاهمات الخاصة بوقف الاغتيالات والتي تم الاتفاق حولها بعد مواجهة أيار من العام الحالي، التي وقعت بين إسرائيل و«الجهاد الإسلامي» واستمرت يومين في غزة، بعد إقدام إسرائيل على اغتيال عدد من قادة «الجهاد» العسكريين.
يومها، كان رد إسرائيل على فشلها في سحق المقاومة في الضفة الغربية التي كانت تحملها لـ«الجهاد الإسلامي» بالدرجة الأولى، باغتيال عدد من القادة العسكريين لـ«الجهاد» في غزة، وحين ذاك رفعت «الجهاد» شعار وحدة الساحات، وهو الخيار الذي يرعب إسرائيل، حيث يقول قادتها بشكل صريح، إنه من الصعب عليها جدا أن تخوض حربا على خمس جبهات في وقت واحد هي: إيران، سورية، لبنان، الضفة وغزة، وهي التي ما زالت تعجز رغم زجها ـــ كما أسفلنا ـــ بمعظم قوتها العسكرية والبشرية في حربها المستعرة والمستمرة منذ عام ونصف العام عن سحق المقاومة الناشئة في الضفة الفلسطينية.
بعد أيام قليلة فقط، من إشارتها بتنفيذ اغتيالات بحق «مرسلي» المقاومين، أي قادتهم، وتحديدا يوم أول من أمس، أي في جلسة الحكومة المصغرة، لم يفصح نتنياهو رئيس الحكومة المخول باتخاذ قرار الاغتيال، عن ذلك القرار بشكل صريح وحسب، ولا عن دائرة الاستهداف التي عادة ما تنحصر في فصيل بعينه، وفي قادته العسكريين بالتحديد، وهذا ما فعلته سابقا، وحتى وقت قريب، حين ذهبت إلى غزة واغتالت قادة «الجهاد» العسكريين الميدانيين بجريرة المقاومة في الضفة، لكن نتنياهو هدد بشكل خاص ومحدد نائب رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» صالح العاروري!
لماذا «حماس» هذه المرة؟ يبدو أن السبب يعود إلى أن «حماس» بعد اجتياح إسرائيل لجنين مطلع شهر تموز الماضي، وبعد أن توصلت إلى تفاهمات داخلية مع «الجهاد»، مضمونها تركيز المقاومة ضد الاحتلال في الضفة، وتجنيب غزة المشاركة المباشرة في المواجهة، حتى وبعد أن استفردت إسرائيل بـ«الجهاد» في غزة في أكثر من مناسبة، ظلت تفاهمات «حماس»/ «الجهاد الإسلامي» صامدة، لكن بعد أن دخلت «حماس» بقوة على خط المقاومة، أولا بإطلاق صواريخ العياش من جنين بعد اجتياحها بأيام للتأكيد على فشل الاجتياح الإسرائيلي، ثم بتوالي إعلان «حماس» الرسمي عن عدد من عمليات المقاومة في الضفة، وكان آخرها بالطبع العمليتان الموجعتان لإسرائيل، وهما عمليتا «حوارة 2» التي وقعت في التاسع عشر من آب الحالي، و«كريات أربع» التي وقعت بعدها بيومين، صارت هدفا لإسرائيل.
أولا: لا بد من القول، إن تنصل نتنياهو من تفاهمات أيار الماضي، جاء تجنبا لسقوط حكومته، حيث يواصل الشريك المتطرف، خاصة بعد كل فشل أمني بتحميل مسؤوليته لليكود بوزير جيشه غالانت، ومع تواصل الاحتجاجات «السبتية» ضد الحكومة، إنما جاء لإرضاء الشريك المتطرف في الحكومة، ولن يبق الأمر عن حدود القرار، أي لا بد من تنفيذه، أي أن نتنياهو/غالانت بدآ بالبحث فورا عن الهدف المراد اغتياله، وهنا لو أنهما فكرا بأحد قادة «حماس» العسكريين في غزة، لقاما بنفسيهما «بتوحيد الساحات»، لأنهم في هذه الحالة قد يفكرون بيحيى السنوار أو أحد قادة «القسام»، بما يهدد ما حققه نتنياهو واليمين من إنجاز ما زال قائما حتى اللحظة وهو الانقسام، ذلك أنه باستهداف قيادة «حماس» في غزة، قد يدفع بحكمها في القطاع إلى السقوط.
ثانيا: مع عادة إسرائيل، كما قلنا سابقا، بأنها تستهدف القادة العسكريين وليس السياسيين، فإنها بذلك تكون مجبرة على استهداف أحد قادة «القسام»، بمن فيهم السنوار نفسه، في غزة، واستهداف الأشخاص لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار مكان إقامتهم، حيث إن اغتيالات إسرائيل للمقاومين ولقادتهم في غزة، أسهل عليها، من حيث إن غزة ليست دولة ولا كيانا سياسيا، له حقوق عدم المس بسيادتها، مع أن إسرائيل لا تقيم وزنا كبيرا لهذا حين يكون المكان بالنسبة لها عدوا، كما تفعل مع إيران وسورية، لكن ولأن معظم قادة «حماس» يقيمون في تركيا وقطر، فإن حسابات عديدة منها ما هو سياسي، يفضل عدم إضعاف الجناح المعتدل في «حماس»، بالتحديد الجناح الحمائمي، المرتبط بقطر وتركيا، لذا فإن نتنياهو حدد الهدف بشكل لم يسبق لإسرائيل أن فعلته، حين وجه تحذيره لصالح العاروري شخصيا وبالاسم.
والحقيقة أن الكواليس الإسرائيلية كثيرا ما أشارت إلى التفكير باستهداف العاروري بالتحديد، ليس لكونه نائب رئيس المكتب السياسي لـ«حماس»، ولا لكونه مسؤول الضفة الفلسطينية في «حماس»، ولكن لأنها تراه ـــ كما سبق لها واعتبرت أبو علي مصطفى، أمين عام الجبهة الشعبية ـــ يخطط من أجل تفعيل المقاومة في الضفة الفلسطينية، وحتى أنه ساهم في الدفع بالمصالحة من أجل الوحدة الميدانية لشق طريق المقاومة الضفاوية، وإسرائيل تحسب حسابا حقيقيا لوزن «حماس» وثقلها الميداني في حال أطلقت المقاومة بعيدا عن حسابات السلطة والصراع عليها، والعاروري بحكم إقامته في لبنان، في حين يقيم رفاقه في تركيا وقطر، هو الأقرب لـ«حزب الله» ولإيران، أي أن قربه هذا يسهل عليه نقل خبرات «حزب الله» وإيران العسكرية للمقاومين من حركته في الضفة كما هو الحال أيضا في غزة، وكما يحدث مع «الجهاد»، كذلك يستفيد نتنياهو من استهداف العاروري بالاسم وبالتحديد من وضع أميركا لأسم العاروري على قائمة المطلوبين.
بالطبع، رد العاروري قبل أيام في لقاء مع الميادين، قبل أن يحدده نتنياهو بالاسم، مؤكدا على خياره الثابت في مقاومة الاحتلال، ثم سارعت «حماس» للرد وتهديد إسرائيل بفتح 3 جبهات هي غزة والضفة ولبنان، حيث تتهم إسرائيل العاروري بتشكيل وحدات فلسطينية مقاتلة، هي من أطلقت الصواريخ عليها قبل أشهر فيما سمي وحدة الساحات، كذلك فعل «حزب الله»، وعلى لسان أمينه العام، مهددا بالرد في حال اغتيال أي احد على أرض لبنان، المهم بتقديرنا أن يفوت الجميع على إسرائيل سياسة الاستفراد، التي ظنت بأنها حققتها حين استهدفت «الجهاد» في جنين وفي غزة، ذلك أن وحدة الساحات ووحدة التنظيمات وتوحد الكل المقاوم، هي الكابوس الذي يطارد الاحتلال في نومه وصحوه.