أحياناً لا تحتمل العناوين أكثر من الاسم عندما يكون الاسم وحده عنواناً.
هكذا هو الأمر حين تودع الصحافة العربية واحداً من أبرز أعلامها الأنقياء الكاتب الصحافي العروبي طلال سلمان مؤسس ورئيس تحرير «السفير» الجريدة الشهيرة في لبنان كـ»صوت من لا صوت لهم» كما كان يريد فقيد الصحافة العربية.
لا يمكن للذاكرة المهنية التي تفتحت بين زمنين؛ زمن الصحافة النقية والصحافة الأجيرة وظلت تتطلع إلى قدسية المهنة، أن تنسى تلك الليلة الحزينة في الحادي والثلاثين من آذار قبل ست سنوات ونصف السنة، تلك الليلة الدرامية التي كان يطفئ فيها طلال سلمان أنوار مكتبه ويغادر معلناً إسدال الستار على واحدة من أهم الجرائد العربية التي استمرت لستة وأربعين عاماً من العام 1974 حتى العام 2017.
كصحيفة جاءت في لحظة عربية ولبنانية كانت تستدعي زمنها وثقافتها وصحافتها ورجالها كان طلال سلمان واحداً من هؤلاء الرجال.
بموت الصحيفة كان رئيس تحريرها الذي يغادر عالمنا اليوم يتسلّم شهادة البراءة من تهمة التمويل والاسترزاق حين أعلن أن صحيفته وصحيفة من لا صوت لهم عاشت ما يقرب من نصف القرن على عوائد الإعلانات التي تبيعها، وحين توقفت تلك الإعلانات لم يعد بالإمكان الاستمرار بتلك الطهرانية النادرة في عصر اختلفت معاييره وانهارت قيمه.
أغلق سلمان «السفير» في لحظة عربية شديدة الاستقطاب، وفي زمن عربي كان يفتح على صراعات استدعت أفكاراً ومروجين لها، وتحولت فيه الصحافة إلى كتائب مسلحة والكلمة إلى بندقية يتم استئجارها.
وفي ذلك العقد الأسود كان يتم فتح صحف وفضائيات وأموال تنتقل بالحقائب بلا حساب، وصحافة تحولت لشركات تجارية، وصحافيين تحولوا لرجال أعمال وسماسرة يعقدون صفقات على بسطات الأرصفة التي انتشرت بكثرة في عواصم العرب، كانت «السفير» تعلن موتها ... فـ «الحرة لا تأكل بثدييها».
لا أحد يشك في أنه كان بإمكان طلال سلمان أن يطلب تمويلاً من أي من الدول التي تجندت زمن الخراب العربي وفتحت مزادات علنية لكل العابرين على طريق الصحافة حتى الهواة منهم، لكن لا أحد ممن يعرف الرجل الخلوق كان بإمكانه أن يتخيل أن يفعلها لأن من نذر نفسه للقيم وقضايا المظلومين وقضية فلسطين أكثر القضايا الأخلاقية لا بد أن يموت كالأشجار واقفاً.
وإذا كان كثيرون من المشتغلين بالمهنة ارتووا بالدم العربي كان يجف الدم في عروق صحيفة مثلت نموذجاً للمهنة فقد كانت مدرسة صحافية.
لا أعرف طلال سلمان ولكن كلنا يعرفه من مقالاته التي تشبه ملامح وجهه الرصينة والثقيلة.
فقد كانت كل كتاباته تعكس استقامة في زمن ظل قلة من المشتغلين بالمهنة قابضين على جمرها. ولكن مرارة الكلمات التي كتبها أصدقاء الراحل في وداعه كانت تعكس قدراً هائلاً من الاحترام لشخصية فريدة في العالم العربي وللكلمة التي ظلت أمينة حتى يومها الأخير، ولم تتساقط مع أوراق خريف العرب الذي تكثف في عقده الأخير الذي غص باصطفافاته الصغيرة والدامية.
كتب صديقه الكاتب والوزير السابق نبيل عمرو «كان طلال ومن اختارهم لخوض التجربة معه عصياً على الانجرار وراء الإغراءات التي تجعل صحيفة السفير تغير مسارها، فظلت وربانها يصارعان من أجل أن تظل صوتاً لمن لا صوت لهم وصمدت إلى أن استشهدت». هكذا كان المكتب ينطفئ معلناً ليس فقط نهاية رحلة الجريدة بل دخول الصحافة الورقية عصر العناية المكثفة بعد ثورة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي وسرعة الخبر والتحليل، فقد حدث تحول هائل لمهنة الإعلام كانت الصحافة والمقال الصحافي إحدى ضحاياه.
الإعلان الذي كان ممول الصحافة المستقلة ذهب باحثاً عن حوامله الجديدة وعن سرعة انتشاره، ولم يبقَ غير الصحافة الممولة والتي تعرضت لعملية تشويه في العقد الذي أطاح بالمعايير ليسيطر التقرير الموجّه والمقال الموجّه والخبر الموجّه، ولتفقد الصحافة بريقها عندما ظهرت كأنها تتجند لخوض معارك حكومات ودول وليس للقراء الذين تأسست من أجلهم، تحولت إلى مادة للدعاية وليس للمعرفة لتوجّه أكبر ضربة لمصداقيتها وفي تلك المناخات حاولت «السفير» أن تصمد ....لكنها سقطت.
طلال سلمان نذر قلمه لقضايا العرب باستقامة ولم ينجر لخفة سياساتهم واصطفافاتهم، ونذر نفسه وقلمه للقضية الفلسطينية حتى المقال الأخير والفاصلة الأخيرة والنقطة الأخيرة وظل وفياً للوحدة العربية وللبسطاء في العالم العربي وشعوبه المسحوقة ولحرية فلسطين وشعبها، وحري بالصحافة الفلسطينية أن تكون بهذا الوفاء لرجل كان قريباً من هموم شعبها إلى هذا الحد، وحري بالفلسطينيين أن يحفظوا سيرة هذا الرجل الذي انتمى لهم روحاً وقلماً وقلباً. فليس بالضرورة تسمية كل الشوارع بالسياسيين فلهذا الراحل تفتح كل الشوارع ولذكراه تهيئ الذاكرة دُرجها الأكثر لمعاناً ... وداعاً طلال سلمان.
عن جريدة الأيام