تتصاعد الفوضى التي تشهدها إسرائيل وصراع السلطات الذي أعاد نفسه في جلسة المحكمة الإسرائيلية العليا، فقد قررت تجميد قرار رئيس وزراء إسرائيل بإقالة رئيس جهاز المخابرات العامة لتبرز الصراع الذي تراجع خلال فترة الحرب بعد أن شغل عناوين الصحف الإسرائيلية والعالمية على امتداد عام 2023 ـ فقد شهدت المحكمة أبرز تجليات هذا الصراع لكن ما حدث في قاعتها كان مدعاة للتوقف.
بعد انتخابات تشرين الثاني 2022 تشكلت الحكومة الأكثر يمينية التي وجدت بالأغلبية التي حصلت عليها فرصة لإعادة تشكيل الدولة وفقاً لقيم اليمين لتُنهي عصر الدولة العميقة، وكان لا بد لها من ضرب سلطة القضاء لتحويل صلاحيات إعادة التشكيل للحكومة دون اعتراض، وهو ما دعا الشارع الإسرائيلي للتظاهر كل مساء سبت ضد ما اسمته الحكومة بإصلاح القضاء التي أعلنها وزير العدل ياريف ليفين.
عدا عن الفوضى السائدة بمحاكمات رئيس الوزراء و»قطر غيت» وأزمة تجنيد الحريديم الذين يهدد رئيس حزب شاس بالانسحاب من الحكومة إذا تم المساس بهم، بالإضافة لقضية فصل الطيارين الذين هددوا بالتوقف عن العمل، فإن الصدام في المحكمة يوم الثلاثاء الماضي كان لافتاً يلقي الضوء على أحد ممكنات القوة في إسرائيل، وإن كانت تلك في طريقها للتآكل بفعل انزياح طبيعي نحو الدولة العالمثالثية، فالصراخ من قبل وزراء الحكومة بمن فيهم وزير العدل وقمع القضاء لهم مثّل سابقة ينبغي قراءتها.
ميري ريغيف وزيرة المواصلات تصرخ وتتهم المحكمة بالنفاق، أما وزير الثقافة عميحاي إلياهو فقد قال إن المشاهد الواردة من المحكمة العليا صعبة، فيما قررت المحكمة طرد عضو الكنيست عن حزب الليكود تالي غوتليب. لم يكن هذا مهماً فقط للنظر لصلاحيات جهاز القضاء في اسرائيل، بل كانت ردود القاضي اسحق عاميت رئيس المحكمة ربما تفتح على ما يدعو للتفكير بحالة حطام القضاء في العالم العربي، والذي أيضاً يلقي الضوء على أزمة تلك البلدان وتلك المجتمعات التي تبدو شبه بدائية في مفهومها للقانون.
محاميا الحكومة اللذان أُرسلا للدفاع عنها حاولا مناكفة القضاة مسلحين بصراخ الوزراء الذين حاولوا الإيحاء للمحكمة بأنها تتطاول على منتخبين من الشعب، ليرد رئيس المحكمة رداً في غاية الأهمية قائلاً «تنتهي صلاحيات أي سلطة وهمية أو حقيقية على بوابة المحكمة» هنا في احترام القضاء لنفسه ولشعبه ما يدعو للتأمل.
وفي رد لا يقل أهمية عندما حاول المحامون والوزراء القول بأن المحكمة تتجاوز صلاحياتها وتعتدي على صلاحيات السلطة التنفيذية والحكومة، قال رئيس المحكمة «إن المحكمة لا تناقش صلاحيات السلطة بل تنظر كيف تتم ممارسة هذه السلطة» أي أن ممارسة تلك الصلاحيات تخضع للرقابة المشددة إذا ما كانت تتم وفقاً للقانون أو وفقاً للمصالح الشخصية أو الحزبية، وهو ما دعا المحكمة للنظر في إقالة رئيس الشاباك وإذا ما كانت تحمل تلك الإقالة شبهة المصلحة الشخصية.
لا بد وأن نعترف أن القوة العسكرية هي خلاصة مجموع القوة في المجتمعات من قوة اقتصادية وثقافية وعلمية وقانونية، وقوة الفصل بين السلطات وقدرة أي سلطة على ممارسة صلاحياتها تحت سقف القانون، وأن القوة العسكرية هي انعكاس للدولة التي تبني الفرد وتحمي حقوقه بالقانون والقضاء الذي يقف حارساً على بوابات كرامته، خوفاً من تعسف والحكومة وأجهزة الأمن في استخدام السلطة والتغول في ممارستها.
تقف الحالة العربية وبضمنها الحالة الفلسطينية على مسافة بعيدة من بنية الدولة الحديثة. ومن الغريب أن يقف العرب مندهشين حد الصدمة من مكانة ومستوى العالم العربي قياساً بباقي دول العالم، فالقضاء في عالمنا العربي ليس أكثر من ديكور مكمل لشكل خارجي للسلطة، بل في غالب الأحيان هو مجرد أداة صغيرة يجري توظيفها لصالح استبداد السلطة، والعاملون فيه هم مجرد موظفين صغار لدى السلطات الحاكمة.
«تنتهي السلطات جميعاً عند باب المحكمة حتى لو كانت محكمة صغيرة» هكذا يقول رئيس المحكمة العليا للوزراء المنتخبين ليعرفوا حجمهم وحجمه، «القضاء لا ينافس على السلطة بل يراقب ويدقق في كيفية ممارستها» ... هكذا كان يعطي اسحق عاميت درساً في استقلال القضاء وفصل السلطات وقوة القانون كمنظومة تم ترسيخها مجدداً في تسعينات القرن الماضي على يد القاضي أهرون باراك، وهو الأمر الذي اكتشفته الطغمة القومية الدينية المنفلتة، معتقدةً أن الانتخابات تخولها أن تذهب للحد الأقصى في ممارسة السلطة وفقاً لبرامجها وسياساتها ورؤيتها الخاصة فوق القانون.
الحالة الفلسطينية المحطمة تدعو للرثاء، فقد تكامل الخراب ليحيطها من جهاتها الأربع، فقد فشلنا في بناء منظومة تؤسس لدولة، ولم يكن القانون ولا القضاء بأي درجة من الاحترام، لذا فشل في حل نزاعات الفلسطينيين مبكراً لتنتهي الحالة بانقسام أسّس للإطاحة بكل القضية ولقرارات فردية نتجت عن تغول السلطة التنفيذية وتفردها بالسلطة والصلاحيات، هذا حدث في الضفة وغزة، ومازلنا نسأل بسذاجة لماذا نحن هكذا؟ نحن أمة نعادي القانون أفراداً وجماعات، أحزاباً وسلطات، أجهزة أمن وأجهزة مدنية، ونُصر على الخراب بل وسعداء به. أتذكرون من فازوا بسلطةٍ ما وظلوا يرددون «الشرعية ... الشرعية»؟ معتقدين أن الفوز بالانتخابات والصندوق يخولهم احتكار السلطة وسحق باقي السلطات، فحدث الخراب....!