تصريحات ترامب وأوامره التنفيذية، وسلوكه خلال الأسبوع الأول منذ اعتلائه منصب الرئيس للقوة الأعظم حتى الآن، تؤشّر على أربع سنوات قادمة، تضع العالم كلّه أمام مرحلة من الاضطرابات الواسعة والعميقة. يتصرّف ترامب وكأنّه المسيح المخلّص الذي أوكل إليه الرب إصلاح البشرية واستعادة الولايات المتحدة، قوّتها ونفوذها، وهيبتها التي تضرّرت، بسبب السياسات الخرقاء للإدارة الديمقراطية برئاسة جو بايدن وفريقه.
يوقف ترامب كلّ أنواع الدعم المالي إلّا ما يتعلّق منها بالدولة العبرية ومصر كالتزامات تاريخية فرضتها «اتفاقية كامب ديفيد» في محاولة لتقليص الضغط على الخزانة الأميركية، ورهن المساعدات، بما يخدم المصلحة الأميركية وينصاع لسياساتها.
وفي المقابل، يسعى لتذخير الخزانة الأميركية من خلال عمليات ابتزاز رخيصة لأموال وثروات الشعوب وفي مقدمتها العربية.
الخزانة الأميركية ينبغي أن تستقبل مئات مليارات الدولارات، من العربية السعودية ودول الخليج، مقابل الحماية بينما المفروض أن تدفع الولايات المتحدة الأميركية مقابل وجود قواعدها العسكرية في هذه الدول، وكذلك التسهيلات التي تقدم لحركة سفنها التجارية والحربية.
ويريد ترامب من الأوروبيين أن يدفعوا ثمن الحماية الأميركية من خلال مضاعفة ميزانيات العسكرة، وأيضاً من خلال زيادة الرسوم والجمارك والضرائب على البضائع التي تصدّرها لأميركا.
ويريد، أيضاً، أن تدفع الصين المزيد من الضرائب والجمارك على البضائع الصينية التي يتم تصديرها لأميركا.
ويقرر ترامب مصادرة قناة بنما وربما بنما كلّها، وجزيرة غرينلاند، وضمّ كندا إلى بلاده. ولا يتوقف عن إصدار القرارات والأفكار المثيرة للدهشة والاستغراب، حين يتحدث عن تهجير سكان قطاع غزة، مرة إلى إندونيسيا، ومرة إلى ألبانيا، ودائماً إلى مصر والأردن.
لا يهتم ترامب، لما قد يترتّب عن تلك الأفكار في حال الإصرار على تنفيذها، بما يتعارض مع الأمن القومي، أو السياسات المبدئية للآخرين، ودائماً يعتقد أن أميركا هي الضامنة لأمن الآخرين وحقوقهم ومصالحهم.
لتسويق الفكرة، يحاول ترامب وفريقه، إضفاء طابع إنساني، على المشروع الذي يعتصر ألماً إزاء ما يعانيه سكان القطاع الذين تفتقر حياتهم إلى أبسط المقومات، وبأنهم يستحقون حياةً أفضل.
ويضيف مسؤولون أميركيون، إن إقامة مئات الآلاف من سكان القطاع في مهاجرهم الجديدة، ستكون مؤقتة، ولكن دون سقف زمني، وبضمانات أميركية لعودتهم، تفتقد إلى المصداقية.
يصرّ ترامب على أنه سيتمكّن من تحقيق الفكرة، بالرغم من أن مصر والأردن، أعلنتا رفضهما لذلك المشروع، وكأنه يلمح إلى أن إدارته ستمارس أقصى الضغوط لكسر ممانعة الدول الرافضة.
لم يمرّ وقت طويل، حتى ينسى الفلسطينيون والعرب، أن فكرة التطهير العرقي لسكان القطاع أولاً ثم الضفة الغربية لاحقاً، كانت من الأهداف الكبرى الأولى لحرب الإبادة الجماعية التي شنّتها دولة الاحتلال على القطاع، بالتزامن مع تصعيد كبير في الضفة.
يؤشّر ما يقدمه ترامب على أنّه اتفق مع بنيامين نتنياهو، على تمكينه من تحقيق أحد أهمّ أهداف الحرب، بطرقٍ أخرى في حال تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزّة وأنّ ما بعد ذلك سيكون الأمر مختلفاً في القطاع المنهك، لذلك، لاقت فكرته ترحيباً شديداً من قبل نتنياهو وفريقه الفاشي، وبخاصة بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير.
ما فشلت في تحقيقه الآلة العسكرية الإجرامية الهائلة سيتم تحقيقه بالوسائل السياسية والدبلوماسية، وعَبر «الصفقات»، التي يجيد ترامب إبرامها. من ناحية تقوم دولة الاحتلال بتجريف «الأونروا»، بما لذلك من تداعيات تتصل بحق عودة الفلسطينيين، ومن ناحية أخرى تهجير سكان القطاع، بما يقوّض قدرات حركة حماس العسكرية والمدنية، ويفسح المجال لعودة الاستيطان فيه، على طريقة تصفية القضية الفلسطينية.
مشروع ترامب يطرح على العرب والفلسطينيين تحدّيات تاريخية صعبة سترسم مآلاتها مستقبل القضية الفلسطينية والمنطقة برمّتها.
سيترتب على العرب أن يقرروا إذا ما كانوا مستعدين للتضحية باستقلال دولهم، واحترام كرامتهم، وسيادتهم، والحرص على مصالحهم الوطنية والقومية أو الغرق أكثر في حضيض التخاذل والرضوخ، إذا كان على مصر والأردن، مستندين إلى موقف عربي جامع رفض ومقاومة مشروع التطهير العرقي، فإنّ التحدّي يفرض على السعودية والدول التي تنتظر «التطبيع»، أن تتمسك بشروطها بشأن ارتباط ذلك بإقامة الدولة الفلسطينية.
الفلسطينيون حتى الآن اتخذوا موقفاً موحّداً وصارماً إزاء التهجير، لكن ذلك غير كاف لإفشال تلك المخطّطات، لا يزال على الفلسطينيين أن يستعيدوا وحدتهم، بأسرع وقتٍ ممكن حتى لا يشكّل استمرار انقسامهم، مصدر ضعفٍ للموقف العربي، وذريعة لإضعاف مركز ثقل الموقف الفلسطيني، في القطاع باعتباره الحلقة الأولى المستهدفة بالتطهير العرقي، ولأنهم الطرف الذي دفع وعليه أن يدفع المزيد من الأثمان بسبب معانياتهم التي لا يطيقها بشر.
الردّ جاء من سكان القطاع، المثقلين بكلّ أشكال الفقر، والدمار، وانعدام وسائل الحياة، من سكن، وطعام، وماء، وطاقة، وأمن، وأمان، ومستلزمات طبية، وهواء نقي، فمئات آلاف الفلسطينيين، بمجرد أن أتيحت لهم الفرصة، لتفكيك خيمهم في جنوب القطاع، ساروا على الأقدام، يحملون ما تيسّر من متاع، عائدين إلى منازلهم في الشمال.
الشمال كلّه من بيت حانون، وبيت لاهيا، وجباليا، وجباليا النزلة، تعرّض لدمار شامل، للبيوت والبنى التحتية الأساسية والاحتياجات المنقذة للحياة.. الناس يعرفون هذه الحقائق، ويعرفون أنهم مقبلون على معاناة كبيرة، في الأماكن التي يعودون إليها، لكنهم يصرّون على العودة في مشهدٍ كأنّه يوم من أيّام عَرَفة.
المشهد الرائع والمحزن لعودة النازحين إلى الشمال، يقدّم رسائل كثيرة عميقة، لا يخطئ في فهمها إلّا جاهل، أو حاقد، أو شامت، ما ترك في دولة الاحتلال، غصّةً وندماً، وحزناً وارتباكاً، وعمّق الشعور بالفشل.