- الدفاع المدني: احتمال توقف خدماتنا بشكل كامل في مدينة غزة بسبب نفاد الوقود
- جيش الاحتلال يلقي منشورات على مدينة بيت لاهيا ويطالب النازحين والأهالي بإخلائها
في الحقيقة فإنه لا يمكن التعامل مع أزمة النظام الفلسطيني باعتبارها مجرد أزمة عابرة، أو كأزمة عادية، إذ هي في واقع الأمر أزمة بنيوية ـ تاريخية بامتياز، وهي أزمة شاملة وعميقة وتطال البني والسياسة والعلاقات؛ برغم كل ما يشوبها من شبهة التدخلات الخارجية (سيما الإسرائيلية والأمريكية)|.
معروف أن النظام الفلسطيني المعاصر، متمثلاً بمنظمة التحرير الفلسطينية، نشأ في أواسط الستينات، وقد اعتورت هذه الولادة مشكلات عديدة، من ضمنها:
1) تشكّل المنظمة ككيان سياسي، برغم افتقادها لممارسة السيادة على إقليم معين، علماً بأن الضفة الغربية وقطاع غزة، آنذاك، كانتا خارج السيطرة الإسرائيلية. وقد ترتّب على هذا التشكّل استحقاقات مؤسّسية وخدمية للفلسطينيين في أماكن تواجدهم، ما جعل المنظمة عالة على النظام العربي، من ناحية المساعدات. وبدلا من أن تقوم هذه المنظمة بفضل دعم شعبها لها باتت هي تقدم الدعم لهذا الشعب، ما أدى إلى تضخّم أجهزتها على حساب دورها وفاعليتها. وعلى الصعيد الخارجي فقد ترتّب على هذا الوضع التزامات واحتكاكات سياسية مع سلطات البلدان التي تواجدت فيها المنظمة، الأمر الذي حمّلها تبعات وأدخلها في مواجهات هي في غنى عنها (تجربة الأردن ولبنان كمثال.
2) الانفصام في طبيعة المنظمة التي جاءت على شكل كيان (دولة في طور التكوين) وبين واقع التحرر الوطني الذي يعيشه الشعب الفلسطيني. ولا شك أنه ثمة اختلاف بين مستلزمات بناء الكيان (الدولة) واستحقاقاته السياسية والخدمية، وبين مستلزمات بناء حركات التحرر واستحقاقاتها. بديهي أن الشعب الفلسطيني في تلك المرحلة من الضياع والتشرد كان بحاجة ماسة لقيام كيان يعبر عنه ويوحده ويدير كفاحه، ولكن ربما كان من الأفضل لو أن هذا الكيان جاء نتيجة ولادة طبيعية ـ تدريجية. أي كنتاج لانبثاق حركة تحرر وكتعبير عن تطورها ونضجها، وليس على شكل قرار من مؤسسة القمة العربية، ووفق صيغ يتم فرضها بمعزل عن التطور السياسي والاجتماعي للشعب الفلسطيني.
3) تحكّم التجاذبات والاستقطابات العربية بمسارات عمل المنظمة. ولا شك أن افتقاد منظمة التحرير لساحة عمل مستقلة، جعلها تخضع لمحددات السياسة العربية، على تباينها، كما جعلها في مرحلة لاحقة تتماثل مع النظام السياسي العربي، وتصبح نظاما من أنظمته. على ذلك فقد تحملت المنظمة في سباحتها في المياه العربية الكثير من التبعات، وقد فاقم من ذلك طبيعة القيادة الفلسطينية التي حاولت اللعب على التناقضات، في نظام عربي يتسم بالشخصانية والقطرية ويفتقد للديمقراطية وللسياسة باعتبارها عملا يخص الشأن العام ومصالح الشعب والأمة.
4) انبثاق الفصائل الفلسطينية التي تتبنى نهج الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية، وأهمها (فتح)، من خارج المنظمة ومن خارج المعادلات الرسمية العربية، وأحيانا بدعم منها، ما خلق نوعا من التمايز والتنافس بين المنظمة والفصائل، وهو ما أدى إلى تأسيس نوع من الازدواجية في النظام الفلسطيني، بين المنظمة والفصائل، أو بين ما سمي فيما بعد القيادة والمعارضة.
5) سيادة الروح الشعاراتية والعاطفية في العمل الفلسطيني، بما يتناقض واستحقاقات النظام الذي يتعامل مع حقائق الواقع وموازين القوى والمعطيات المحلية والإقليمية والدولية. وثمة مفارقة كبيرة في أن العمل الفلسطيني ظل يحمل شعارات ومهمات أكثر بكثير من قدراته وإمكانياته، برغم من أن الواقع يؤكد أن لا الوضع العربي ولا الوضع الدولي قادر على حمل هذه الشعارات.
اللافت أن تلك التناقضات والإشكاليات ظلّت تتحكم بمسارات العمل الفلسطيني، وتضغط عليه وتحد من تطوره، بالرغم من كل المتغيرات والتطورات الحاصلة إن في الساحة الفلسطينية نفسها، أو على الصعيدين العربي والدولي، كما على صعيد التطورات والتحولات المتعلقة بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
في العام 1968، مثلاً، أي بعد ثلاثة أعوام على ولادة منظمة التحرير، حدثت أول نقلة “انقلابية” في النظام السياسي الفلسطيني وهي تمثلت:
أولاً: باستبعاد المرحوم أحمد الشقيري من رئاسة المنظمة.
وثانياً: بهيمنة الفصائل الفلسطينية، وتحديدا حركة فتح، على منظمة التحرير؛ وبالتالي مجيء ياسر عرفات رئيسا للمنظمة.
وثالثا: باعتبار منظمة التحرير إطارا جامعا للفصائل الفلسطينية، وبذلك انتفى التمايز بين دور المنظمة باعتبارها الكيان الرسمي والفصائل باعتبارها الممثل للبعد الشعبي.
النتيجة التي ترتبت على ذلك الانقلاب، في حينه، كان لها انعكاسات سلبية كبيرة على المنظمة وعلى الفصائل، في آن معا، إذ غيّرت من طبيعة الطرفين. المعنى أن التزاوج أو التماهي بين المنظمة والفصائل لم يكن لصالح أي منهما. فالمنظمة (الكيان) فقدت طابعها المؤسساتي المنظم، والذي تحكمه اللوائح والقوانين والخبرات والذي كان الشعب الفلسطيني في تشتته أحوج ما يكون إليه، بعد أن هيمنت عليها العقلية الفصائلية، التي تتسم بالأبوية والعفوية والمزاجية في العمل والإدارة. أما الفصائل ففقدت كثيرا من طابعها كحركة تحرر، بعد أن تحولت بمعنى ما إلى كيانات سياسية مصغّرة، تخضع لحسابات الكيانات وطرائق عملها وعلاقاتها، على حساب بعدها التحرري الشعبي، وتتصرّف ككيان قائم بذاته، في علاقاتها الخارجية وفي حساباتها السياسية، وفي كيفية بنائها لمؤسساتها كما لجهة حصتها في نظام “الكوتا”، الذي تحكّم بالساحة الفلسطينية وكان أحد أهم عوامل تكلّسها وتخلفها ووصولها إلى ما وصلت إليه.
في كل الأحوال فقد عاشت الساحة الفلسطينية مشكلات هذه الازدواجية، التي تفاقمت بسبب القيادة الفردية، وضعف الأطر والمؤسسات والعلاقات الديمقراطية، وسيادة الروح الأبوية والعفوية في العمل الفلسطيني على مختلف الأصعدة؛ وهي الأمور التي حالت دون إمكان تطور العمل الفلسطيني، إن في بعده الكياني أو في بعده التحرري، وظلت الإنجازات المتحققة للشعب الفلسطيني إنجازات ملتبسة وناقصة أو بمعنى آخر قابلة للتبدد، لدى أي أزمة أو منعطف لافتقاد هذا الشعب لأطر متماسكة ولعلاقات ثابتة.
على أية حال فإن النظام السياسي الفلسطيني تعرض لامتحان جديد، مع اندلاع الانتفاضة الكبرى (1987 ـ 1993)، التي أدخلت مفاهيم وأشكال نوعية جديدة إلى ساحة العمل الفلسطيني، يتمثل أهمها في التالي:
1) انتقال ثقل العمل الفلسطيني إلى الداخل، أي إلى الأرض المحتلة وهي الساحة الطبيعية للمواجهة مع إسرائيل، وقد حصل هذا الأمر في ظرف كانت تتعرض فيه منظمة التحرير وفصائلها للحصار والتآكل بعد غزو إسرائيل للبنان (يونيو 1982) وبعد خروجها العلني من بيروت، وتضاؤل إمكانية العمل العسكري الفلسطيني ضد إسرائيل من البلدان العربية المجاورة.
2) أعادت الانتفاضة الاعتبار للبعد الشعبي لحركة التحرر الفلسطينية، إذ لم تعد حكرا على المنتمين للفصائل من المتفرغين أو العسكريين، بعد أن حملها المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع.
3) ابتدعت الانتفاضة شكلا جديدا للكفاح ضد إسرائيل هو المواجهة الشعبية عبر العصيان المدني والحجارة والانتفاضة السلمية والكفاح السياسي.
4) أدخلت الانتفاضة نوعا من العقلانية على الخطاب السياسي الفلسطيني بعد أن كان يعيش على الشعارات والأمنيات، وهو ما تمثل بطرح برنامج الاستقلال في دولة فلسطينية في الضفة والقطاع.
5) ولدت الانتفاضة جيلا جديدا من القيادات التي باتت تمثل نوعا من المنافس لقيادات فصائل منظمة التحرير.
اللافت أن القيادة الفلسطينية لم تحاول استثمار هذه التطورات والبناء عليها لإدخال تغييرات في مفاهيمها وأشكال عملها وبناها وإنما عملت عكس ذلك، أي على تهميشها والحد من تأثيراتها، انطلاقا من اعتبارها لذاتها الشرعية التاريخية والثورية والممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني؛ في نظرة ضيقة للأمور.
ومع انعقاد مؤتمر مدريد للسلام (أواخر العام 1999) تعرض النظام الفلسطيني لامتحان من نوع جديد، إذ عكفت الإدارة الأمريكية ومعها بعض الأطراف في العالم العربي لإيجاد مفاوض فلسطيني من الأراضي المحتلة للمشاركة في هذا المؤتمر (ضمن وفد أردني ـ فلسطيني مشترك)، بدلا من قيادة المنظمة. وفي حينه رضخت قيادة المنظمة لهذا الأمر على مضض بحكم الضغوط عليها، على خلفية التداعيات والتحولات الدولية والإقليمية، التي تأثرت بها، والناجمة عن انهيار الاتحاد السوفييتي (السابق) وحرب الخليج الثانية.
طبعاً لم تسلم قيادة المنظمة لهذا الأمر فما لبثت أن التفّت على الوفد المفاوض، بفتحها قناة تفاوض سرية مع إسرائيل وعقدها اتفاق “أوسلو” للتسوية (سبتمبر 1993)؛ مستعيدة اعتبارها ومكانتها كقيادة وحيدة للشعب الفلسطيني، ولو بثمن الإجحاف الذي لحق بالفلسطينيين في الاتفاق المذكور؛ وبذلك تم إجهاض التحول الذي كادت تحدثه الانتفاضة في النظام الفلسطيني!..هذا يضعنا إزاء مرحلة جديدة تحتاج إلى حديث جديد.
"الغد"