الكوفية:يبدو طرح هذا السؤال وكأنّه ينطوي على تخوُّفٍ على هذا البلد، الذي تعرض لكارثة وطنية بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
تخوُّفٌ على وجوده وبقائه ووحدته!
نعم، الأمر يتعلق بكل هذا، والأمر يصل إلى هذه الحدود بالذات، حدود الدولة والكيان والمجتمع.
ومن يعتقد أن الأمر ما زال خارج هذا الإطار والدائرة مطالب بإثبات، ويحتاج إلى الكثير من الأدلة والبراهين.
هذا لا يعني بطبيعة الحال أن هذا المسار وهذا المصير بات حتمياً، أو حتى مرجّحاً، لكن لبنان ما بعد الكارثة لم يعد يحتمل المراوحة، ولم يعد بالإمكان التحايل على ضرورة التغيير الشامل لكامل منظومته السياسية.
وليت أن الأمر يتوقف عند هذه المنظومة، لأن الأمر قد تخطّى هذا الأمر، وتحولت الأسئلة وتعمقت ووصلت إلى تغييرات اجتماعية وتنموية ملازمة لتحقق شروط تغيير المنظومة السياسية.
لا شك أن التخلص من نظام المحاصصة الطائفية من خلال قانون انتخابات يقوم على مبدأ المواطنة سيقلص ويحد من وطأة هذه المحاصصة في الواقع اللبناني.
ولا شك، أيضاً، أن قانوناً انتخابياً عصرياً يلغي مبدأ الاقتسام والتقاسم القائم سيعزز من الثقافة الوطنية، ويرفع من قيمتها وشأنها على حساب الهوية الطائفية والمذهبية، لكن لبنان، وربما كنتيجة لتراكم فعل وتأثير المحاصصة الطائفية يعاني من تبعات لا تقلّ أهمية وخطورة من هذه المحاصصة. أقصد أن المسألة في تجلياتها النابعة والتابعة تصل إلى عوائل الإقطاع السياسي، وزبائنية العلاقات في إطار سطوة هذه العائلات في إطار العلاقات البين ـ طائفية.
وعند التدقيق في كُنه وجوهر هذه العائلية من الإقطاع السياسي، وامتداداتها الطائفية، نلحظ الصلة المباشرة ما بين نظام المحاصصة والاقطاعيات العائلية ومنظومات اقتصادية واجتماعية تكرس الهيمنة الأبوية.
شيوخ وأمراء وبيكاوات يتحكمون بالطوائف ولديهم من السطوة ما يفوق الدولة والمؤسسات الوطنية ويتفوق عليها.
يتبع هذه المنظومات مؤسسات ومرجعيات دينية ومذهبية وطائفية تلعب دوراً مباشراً ومكملاً لهذه المنظومات، وتدور في فلكها أو هي من تلعب الدور المباشر في توجيه دفة هذه الأفلاك، خصوصاً في مراحل الشحن والاستقطاب السياسي.
المؤكد بهذا الشأن أنه وبعد الكارثة، وبعد اندلاع هبّة شعبية جديدة تبدو أكثر عزماً وتصميماً في مضمونها السياسي، وفي عمق محتواها الجماهيري، وفي الأبعاد التي يمكن أن تترتب عليها فقد بات مستحيلاً ـ بكل معنى هذه الكلمة ـ نزع فتيل أزمة طاحنة قد تطحن معها البلاد وتطيح بكل العروش من كل أنواع العروش. أصبح القانون الانتخابي الجديد هو المدخل لتجنب الحرب الداخلية، والاحتراب الذي يتجاوز كل الحدود.
لن تُحلّ كل مشكلات وأزمات لبنان من خلال هذا المتغير الهائل. لكنه المدخل للحلول المستقبلية، وأصبح هذا القانون، والتوافق عليه أو على مرحلة انتقالية نحو اعتماده الممر الإجباري لعبور لبنان نحو أي شكل من أشكال التعايش والبقاء، سواء تعلق الأمر بالدولة اللبنانية، أو الهوية أو وحدة المجتمع.
وليس كل من يطالب، اليوم، بالمحاسبة والرقابة ومحاربة الفساد والهيمنة سيقبل قانون الانتخابات الجديد عن طيب خاطر، وليس كل من سيقبل به سيتنازل طواعية عن دور وامتيازات ووصاية وهيمنة العائلات السياسية التي تتوارث هذه الوصاية، وليس كل من «يقاوم» قانون المحاصصة والاقتسام الطائفي سيكون المتضرر الأول أو الوحيد من وجود نظام انتخابي جديد على أسس وطنية.
فمن قال مثلاً، إن القانون الجديد في حالة اعتماده سيكرس مبدأ المواطنة في الانتخابات والخيارات الانتخابية؟
خذوا على سبيل المثال «حزب الله» وحركة «أمل».
ما هو الحجم الحقيقي الذي يمكن أن يتغير جراء القانون الجديد في نسبة تأييدهما من الطائفة الشيعية.
وهل قانون انتخابي لا يقوم على مبدأ المحاصصة الطائفية سيلغي المناطقية، ويذهب إلى الدائرة الوطنية الواحدة والموحدة حتى يحدث التغيير الكبير؟
وهل تقبل أحزاب «الموالاة والمعارضة» بالصيغة الوطنية أو بالدائرة الوطنية الواحدة بسهولة ويسر بمقدار السهولة واليسر الذي يتحدثون به ويدعون أنهم على استعداد للوصول إليها؟
إذا أُلغيت المناطقية تماماً كما تُلغى الصيغة الطائفية ما هي حظوظ الدروز ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ وهل تشكل الائتلافات السياسية على قوائم سياسية ضمانةً كافية للطائفة الدرزية؟
الجواب، لا، ولكن إلغاء الطائفية السياسية وتقليص دور عائلات الإقطاع السياسي، سيحدّ كثيراً من أبوية الواقع وزبائنية العلاقات البينية داخل المنظومة الطائفية، أو المذهبية الواحدة، وسيجعل من عنصر الطابع الوطني العام للشخصيات والأحزاب الاعتبار الأعلى والأكبر.
هذا يعني ببساطة أن القانون الجديد سيؤسس لمرحلة تاريخية جديدة تبدأ مع اعتماد القانون، وتتطلب جهداً وطنياً وثقافياً تراكمياً لسنوات وربما عقود حتى تتكرس من خلاله ثقافة الانتماء الوطني والهوية الجامعة.
وحلفاء اليوم، إذا تمّ اعتماد نهجٍ من هذا القبيل ليسوا هم بالضرورة حلفاء الغد، وحلفاء الأمس، لن يكونوا هم أنفسهم حلفاء يوم إقرار أو اعتماد القانون.
حتى فرنسا والغرب لن يكونوا من أشدّ المتحمّسين لقانون عصري وحديث وديمقراطي حقيقي، لأن المحاصصة الطائفية هي جزء «أصيل» من منظومة التبعية والارتهان اللبناني، تماماً كما هي منظومة الارتهان والتبعية اللبنانية لحالة الهيمنة الإيرانية والسورية على لبنان.
وحول الكثير من مسائل المحاصصة الطائفية تدور الكثير من المقولات والمفاهيم المخادعة والمغلوطة.
لا يمكن أن تكون حدود المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والتي وصلت إلى حدود تخطّت كل الخطوط بكل الألوان، ووصلت إلى ما بعد بعد بعد الخط الأحمر هي نتاج لدور وأداء حكومة مهما كانت هذه الحكومة تشكّل انعكاساً مباشراً لهذه القوى أو تلك.
المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة في لبنان هي نتاج لتركيبة دولة، ونظام سياسي شامل، وإفراز موضوعي لمنظومات متكاملة تغطيها وتحميها منظومة الدولة الطوائفية والمحاصصة والاقتسام الطائفي.
وعليه فإن الانتخابات على أساس قانون عصري وحديث ووطني ـ بمعنى ما فوق طائفي ـ يعني من بين ما يعنيه تلازم العملية التنموية مع البعد الانتخابي وتحوّل الاستقطابات السياسية إلى استقطابات برنامجية حتى لا يتحول القانون المنشود إلى مجرد شكل سياسي مفرَغ من محتواه ومبتغاه وأهدافه.
لبنان على مفترق مخاض سياسي عسير، وخارطة وتوزيع تحالفاته وائتلافاته الداخلية ما زالت برسم حجم التغيير الذي سيطرأ على منظومته السياسية الشاملة المرتقبة، ولهذا لا أنصح أحداً بالتمحور المسبق ولا بالاصطفافات المتسرعة، وأثني بقدر ما يتعلق الأمر بشعبنا الفلسطيني على السياسة التي انتهجها دائماً الرئيس أبو مازن، وهي اللامحورة واللااصطفاف والتركيز فقط وقبل كل شيء على أن تبقى فلسطين هي المحور وهي مركز الاستقطاب والاصطفاف.
وهي سياسة أثبتت دائماً صحة لا تضاهيها في الواقع العربي والإقليمي صحة مماثلة أو منافسة.
عيننا على فلسطين، وقلبنا مع لبنان وشعبه الصابر الصامد، أما عقلنا فهو لإدارة الصراع وفق أعقد حسابات المرحلة توقعاً.
الأيام