الكوفية:سمعت جرس الهاتف يرن رنيناً عالياً متصلاً، فأمسكت بالهاتف ونظرت إليه فرأيت رقما غريباً، فظننت أنه آتٍ من خلف الشمس عبر ما لدى الأسرى من هواتف مهربة، وكان ظني في مكانه. فبعدما تلقفت السماعة، فاذا به صوت أسير خافت يقول لي والدموع تكاد تخنقه: كل عام وأنتم بألف خير. ومن ثم استرسل صديقي في حديثه ليصف لي أوضاعهم ومشاعرهم في العيد. فصَمَتُ كثيراً وأنصت له طويلاً، وسمعت منه هذا الصباح ما فيه الكفاية. كانت كلماته تفيض بالألم والمرارة ممزوجة بالفرحة والأمل. فانحبست كلماتي في الحلق، ولم يعد بمقدوري أن أبادله الحديث، فالحياة والمشاعر في العيد داخل السجون مختلفة، ولا يحسّ بها سوى من ذاق مرارة السجن وعاش بين جدرانه، ولا أظن أن أحدا منا دخل سجون الاحتلال وشهد العيد خلف القضبان، وقد نسى ما ألم به وكيف كان ينقضي العيد في السجن!.
ومع ادراكنا لصعوبة ترجمة المشاعر الى كلمات، إلا أننا نجتهد ونحاول أن نصف حال أسرانا وذويهم ومشاعرهم في العيد. اعتمادا على ما حفظته ذاكرتنا واستنادا لما يصلنا راهناً. فالعيد مناسبة سعيدة يحتفل بها العالم الإسلامي في كل أنحاء الأرض، بل هي مناسبة عظيمة بعظمة قيمتها ومكانتها. ففي العيد تتزين الشوارع والمدن، وتوزع الحلوى، وتُكثر فيه الصلوات وذكر الله والدعاء، وتنتشر الأفراح والمسرات وتبادل الزيارات، فيما الأطفال يتميزون عن غيرهم بارتداء الأثواب الجديدة.
أما الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي فانهم يستقبلون العيد بأشكال وصور متعددة، ونظرتهم للعيد تنطلق من بعدين؛ الأول العقائدي والديني وهذا يجعل الأسير يستشعر مكانة العيد ويتعامل معه من هذا المنطلق خاصة انه مناسبة إسلامية ذات دلالة في الشريعة.
أما البعد الآخر فهو المتمثل في نفسية الأسير في تلك اللحظات التي يبدأ معها بتقليب شريط الذكريات، ويتخيل نفسه بين أهله وعائلته، ويتمنى أن يكون بينهم يشاطرهم هذه المناسبة ويشاركهم الفرحة.
ففي السجون المحاطة بالجدار الشاهقة وداخل الغرف المغلقة بحراسة السجان يعيش الأسرى ظروفاً صعبة، ومشاعر من الفرحة والسعادة ممزوجة بالألم والحزن لفراق الأحبة.
والعيد في السجون مناسبة إسلامية سعيدة، لكنها ثقيلة ومؤلمة، وتمر ساعاتها المعدودة وأيامها المحدودة ببطء شديد، والحياة والمشاعر فيها مختلفة، فيضطر الأسرى لإحياء المناسبة بطقوس خاصة، حيث الاستيقاظ المبكر صبيحة العيد، والاستحمام وارتداء أجمل الملابس، والخروج إلى الفورة (الساحة) لصلاة العيد، ومن ثم يصطفون بشكل دائري في الفورة، ويسلِّمون على بعضهم بعضاً، ويتبادلون التهاني، ويوزِّعون الحلوى والتمر وفنجان القهوة، ويواسون بعضهم بعضاً، وتُلقى الكلمات والخطب القصيرة.
وفي كثير من الأحيان تمنع إدارة السجن صلاة العيد بشكل جماعي في ساحة القسم، وترفض تخصيص زيارة للأهل، أو الاتصال بهم هاتفياً. وفي أحيان أخرى تعمد إلى استفزاز الأسرى من خلال التنقلات أو الاقتحامات والتفتيشات خلال أيام العيد.
والعيد هو مناسبة مؤلمة بالنسبة للأسرى، قاسية على قلوبهم، ثقيلة على رؤوسهم، يضطر فيها الأسير لاستحضار شريط الذكريات، بما حمله من مشاهد ومحطات مختلفة. فبعض الأسرى ينطوون لساعات طويلة في زوايا الغرف الصغيرة، والبعض الآخر يشرع في ترجمة ما لديه من مشاعر على صفحات من الورق، ليخطّ بعض القصائد والرسائل على أمل أن تصل لاحقاً إلى أصحابها، أو قد لا تصل وتبقى حبراً على ورق، وقد تنهمر الدموع من عيون بعضهم حزناً وألماً.
وفي السنوات الماضية كانت إدارة السجون تسمح للمؤسسات بإدخال الحلويات بمناسبة العيد وتوزع على الأسرى، وهذا ما كان يجعلهم يستشعرون بعضا من مذاق هذه المناسبة، لكن ومنذ عدة سنوات ترفض إدارة السجن إدخال الحلويات.
العيد مناسبة لا يحسّ بآلامها وقساوتها سوى من ذاق مرارة السجن، وهناك المئات من بين آلاف الأسرى الفلسطينيين قد استقبلوا عشرات الأعياد وهم في السجن، ومنهم من احتفل بالعيد مع أبنائه داخل السجن، ومنهم من فقدوا الأمل وإلى الأبد في إحياء الأعياد مع آبائهم وأمهاتهم، لأنهم فقدوهم وهم في السجن، وكثير منهم يتمنون أن لا يأتي عليهم العيد في مثل هكذا ظروف، خاصة أولئك الأسرى الذين فقدوا أحد أعزائهم وأفراد أسرهم، أو أبويهم وهم بداخل السجن.
وهي مناسبة لا تقل ألماً بالنسبة لأهالي الأسرى، إذ تعيش عائلاتهم وأطفالهم لحظات من الحزن على فراقهم حيث يستذكر الأطفال آبائهم، ويستحضر الأهل سيرتهم وهو ما يجعلهم يشعرون بالحزن على فراقهم. عائلات بات حُلمهم في العيد ليس التوجّه للأماكن العامة والمتنزهات وقضاء ساعات جميله مع أبنائهم وأحبتهم وأحفادهم، -وان كان هذا حلم الجميع-؛ وإنما انحصر حلمهم في عودة أبنائهم الأسرى إلى أحضانهم، أو أن يُسمح لهم بالتوافد إلى بوابات سجون ومعتقلات الاحتلال لزيارتها ورؤية أبنائهم وأحبّتهم المحتجزين هناك ولو لدقائق معدودة، في ظل تصاعد الهجمة الشرسة واتساع حجم الانتهاكات والجرائم بحق أسرانا في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ومع توقف الزيارات وانقطاع آليات التواصل فيما بين الطرفين منذ تفشي فايروس "كورونا".
ويحل العيد هذا العام ولا جديد على أوضاعهم وظروف حياتهم، سوى مزيد من القمع والتنكيل والعزل الانفرادي والاقتحامات لغرفهم وأقسامهم والاعتداءات عليهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية. وما زاد الطين بلة تفشي فايروس "كورونا" والقلق المتزايد من احتمالية اصابتهم أو اصابة بعضهم بهذا "الوباء".
وفي غمرة فرحتنا باستقبال العيد علينا وعلى الجميع أن يتذكر بأن هناك الآلاف من الأسرى يقبعون في سجون الاحتلال، بينهم أطفال وطلاب وفتيات وأمهات وشيوخ ومرضى ومعاقين، وبينهم نواب وأكاديميين وقيادات سياسية.
ومن بين الأسرى هناك من هم معتقلين منذ أكثر من عشرين سنة، على التوالي، بل ومنذ ثلاثين سنة وما يزيد، وبينهم كريم وماهر يونس المعتقلان منذ ثمانية وثلاثين عاماً، وهؤلاء جميعا هم بحاجة لفعلنا وجهدنا ونصرتنا دوما. ففرحتنا تبقى منقوصة لطالما بقى أسير واحد في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
فعيدنا الحقيقي يوم أن يعود الأسرى لعائلاتهم، وأن تتجسد الوحدة الوطنية الحقيقية قولا وفعلا، وعيدنا يوم عودتنا لديارنا وأرضنا ويوم يرفع فيه العلم الفلسطيني خفاقاً فوق مآذن وكنائس القدس الشريف. وكل عام وأنتم أيها الأحبة أينما تواجدتم بألف خير، أعاده الله علينا وعليكم بالخير والبركة
وادعوا لأسرانا أينما كنتم :
اللهم فك أسر أسرانا وأسيراتنا جميعاً وأعيدهم إلى ذويهم " آمين يارب العالمين"