- مراسل الكوفية: قصف مدفعي عنيف يستهدف غربي النصيرات
لم تكن القضية الفلسطينية يوما ما على أجندة جماعات الإسلام السياسي بشكل عام، وتنظيم داعش بشكل خاص، وطوال سنوات نشوء وإرتقاء داعش في العراق وسوريا، لم يحدث أن أبدى الدواعش إهتماما ما بقضية العرب المركزية، وعليه يبقى السؤال: ما الذي تغير حتى يصدر المتحدث الجديد باسم داعش “أبو حمزة القرشي” خطابا إعلاميا مصورا يجعل فلسطين هدفا مرحليا قادما، وقائما إن جاز التعبير؟.
عدة ملاحظات على خطاب القرشي الأخير الذي اتخذ من خطة السلام الأمريكية للشرق الأوسط، أو ما أصطلح على تسميته صفقة القرن، حصان طروادة لإعادة إنتاج الخطاب الإرهابي المطالب الآن بإستهداف المصالح اليهودية في أنحاء العالم، والتسلل كذلك إلى داخل إسرائيل وتنفيذ هجمات إرهابية.
يكشف المحتوى الجديد الصادر عن جماعة “الفرقان” الأداة الإعلامية للدواعش، والتي تبث محتواها عبر موقع “تليجرام” عن براجماتية إرهابية إن صح القول، تسعى إلى إستغلال الموقف العربي والإسلامي من الرؤية الأمريكية، الرافض لتغيير الثوابت، مدخلا لجذب مزيد من المريدين تحت رايات فاقعة وشعارات زاعقة، تعزف على المضمون العقائدي للقضية، كديدن داعش في إكتساب عناصر جديدة من ضعاف النفوس لحاضنتها الإرهابية.
يلاحظ المرء أن خطاب القرشي يستخدم الأدوات الكلاسيكية المتهافتة في إستغلال القضية الفلسطينية كمطية لتنفيذ رؤيته الأصولية الموغلة في الدماء، وعنده أن “الطريق إلى بيت المقدس”، العبارة التي كررها أكثر من مرة، يمضي عبر عمليات إرهابية في شتى أنحاء العالم، كخطوات أولية إستعدادا للقتال في الداخل الفلسطيني، حيث طالب بتحويل “المستوطنات وأسواق اليهود” إلى أرض لتجارب السلاح والرؤوس الكيميائية.
التعبير الأخير الخاص بالرؤوس الكيميائية يستلفت الأنظار بنوع كبير، ذلك أنه يطرح علامات إستفهام حول الإمكانيات اللوجستية للدواعش، وتقاطعات عملياتهم مع الإرهاب البيولوجي والكيميائي، وهي مساحة خطيرة وجديدة في فكر الجماعة المارقة، وما تنتويه، هذا إذا افترضنا أنها لا تمتلك بالفعل آليات أو أداوت لتنفيذ تهديداتها، مع الأخذ بعين الإعتبار جهودها المستمرة والتي لم تنقطع رغم الإنحدار الذي تعرضت له في الشرق الأوسط، في طريق تجنيد المزيد من الذئاب المنفردة، ومن بين تلك العقول هناك من لهم علاقة بهذا المجال العلمي المخيف، والذي يمكن أن يضحى سلاحا فتاكا عند لحظة بعينها.
هل للدواعش حضور في الداخل الفلسطيني في الوقت الراهن؟
المؤكد أن الدواعش قد فشلوا في إيجاد موضع قدم لهم على الأرض في الداخل الفلسطيني، رغم إرهاصات بعض المجموعات قليلة العدد والعتاد، والتي تصادمت إيديولوجيا مع حماس بنوع خاص.
ولعل الذين استمعوا إلى القرشي قد وقر لديهم أن الدواعش عقلية أحادية لا تقبل أي شراكات مع أي جماعات أصولية أخرى ولهذا فقد صب المتحدث الجديد جام غضبه على حركة حماس والميليشيات العراقية الشيعية وجماعة الإخوان المسلمين والأكراد، ومن أسماهم بالمرتدين من أبناء العشائر العراقية، عطفا وبالضرورة على الهجوم الحاد على الولايات المتحدة الأمريكية.
يكشف تحليل المحتوى والمضمون لخطاب القرشي أن هناك تبدلات وتغيرات جذرية في بنية وتوجهات التنظيم الإرهابي، فقد كانت دعوة البغدادي طوال الأعوام التي سبقت إغتياله تمضي في طريق إستقطاب من يطلق عليهم “المجاهدين” والداعين لدولة الخلافة الى المقر الرئيس لها ما بين العراق وسوريا، إلا أن القرشي تحدث بلسان ورؤية أخرى بالقول إن على المؤمنين بفكر الدواعش التوجه إلى أقرب ولاية، ما يعني تخلي التنظيم في تلك المرحلة عن وجود نقطة مركزية لوجستية تقام عليها الدولة المزعومة.
هذا التفكير الإرهابي الجديد، ومن أسف شديد، له خطورته الأشد، ذلك أنه ينزع عن داعش فكرة مركزية التنظيم وهيراركية التعليمات وأوامر العمليات الإرهابية، ويفتح المجال واسعا أمام العديد من الجماعات التي تتساوق رؤاها وأهدافها مع منطلقات الجماعة الإرهابية، حتى لو تباعدت بهم المسافات، الأمر الذي يعطي متسعا حول العالم لتخليق خلايا أصغر عددا وأشد ضراوة، ويتيح إحتمالات أعرض لإنتشار وتمدد ظاهرة الذئاب المنفردة، وكلها تعني أننا أمام مولد النسخة الأحدث من التنظيم بفكر وعقل مغايرين لما جرت به المقادير خلال الأعوام الخمسة الماضية.
هنا يضحى من نافلة القول إن داعش في ثوبها الجديد تحاول أن تعوض خسارتها البشرية من خلال العزف على أوتار قضية فلسطين وفي القلب منها القدس، ذلك الرمز الإيماني والروحي والذي يشغل حيزا واسعا ومؤكدا في قلوب كل مسلمي العالم، وليس مسلمي العالم العربي فحسب، ما يعني إتاحة المجال واسعا لكافة أتباع الحركات الأصولية في العالم برمته، من آسيا الشرقية، إلى أمريكا اللاتينية، ومن أمريكا الشمالية إلى القارة الأوربية، وجميعها يقيم فيها مسلمون من مختلف الجنسيات، قدرت العولمة المعاصرة تحركهم وتنقلهم حول العالم، الأمر الذي يجعل من فكرة التوجه إلى أقرب ولاية، أو تخليقها، أمرًا مخيفًا، بمعنى أن العالم ربما يكون على موعد مع الدواعش الموزعين على كافة أرجاء الكرة الأرضية.
ولعل المزيد من التعمق في هذا السياق الفكري الجديد للدواعش يكشف لنا عما هو خطير ومثير بالفعل، بمعنى أنه ما من ضامن ألا تتحول الولايات الجديدة التي تنشأ في البداية في رحم التنظيم الأم، إلى جماعات أصولية وإرهابية مستقلة قائمة بذاتها، وهو أمر شبه مؤكد في ضوء إعتراف القرشي بوجود إنشقاقات عن التنظيم في أعقاب مقتل البغدادي، حيث توعد المتحدث باسم داعش كل من إنشق عنه بالملاحقة والقتل.
نحن إذن أمام خطر جديد محيق بداعش كتنظيم يبدو ظاهريا أنه متماسك، إلا أنه في واقع الحال يعاني وبشدة من تفكك داخلي دفعه في طريق محاولة إيجاد سيناريوهات جديدة للتعامل مع أزمته الراهنة.
الإنطلاقة الجديدة للدواعش والتي تأخذ من القضية الفلسطينية مدخلا مغاير لما رددته أبواقه طوال الأعوام القليلة الماضية، فيها من التغيير ما يزعج بأكثر مما كان قبلا على صعيد الرؤية الإعلامية المستقبلية للجماعة.
في خطابه الإعلامي كان القرشي غير راض عن الأدوات الإعلامية التي استخدمتها الجماعة الداعشية في ظل أبوبكر البغدادي، لا سيما الطرق التقليدية لبث التسجيلات المصورة، أو البيانات الإعلامية، والتي كانت تتبع الأساليب التقليدية الماضوية، ولهذا نراه يدخل بنا وبالعالم إلى منطقة باتت تمثل الخطورة الحقيقية بذاتها، أي العالم الرقمي، حيث وسائط الاتصال الاجتماعي تكاد تقلب الأوضاع رأسا على عقب، فمن خلال إتجاه التنظيم إلى فكرة التطبيقات الألكترونية، يمكن له أن يبث أفكاره على صعيد العالم برمته في ثوان معدودات، ولهذا سوف نلاحظ في الأشهر القادمة مرحلة جديدة من المنصات الإلكترونية ومنصات الحديث، والمواقع الخلفية القادرة على تجنيد المزيد والمزيد ممن لديهم إستعداد بالفعل للتطرف وتنفيذ عمليات إرهابية على الأرض، الأمر الذي يدخل بنا إلى دائرة حديث آخر يحتاج إلى قراءة منفصلة تخص إشكالية الأمن السيبراني حول العالم في قادم الأيام.
يتضح لنا إذن أن مسألة فلسطين هذه ليست بيت القصيد ولا هي الهدف الحقيقي المنشود من وراء دعوة القرشي الأخيرة، بل إعادة البناء الهيكلي للتنظيم من خلال دعاية لا تصد ولا ترد، وليس أفضل من المزايدة على بيت المقدس والمقدسات من طرح ينطلي على عقول المتطرفين.
غير أنه لا يغيب عن الأعين والأذهان أن دعوة كهذه في واقع الحال لا يمكن أن تكون قيمة مضافة لصالح قضية عادلة، بل هي أداة للهدم سوف يتم استغلالها من الجانب الآخر، والذي سيظهر مخاوفه المبالغ فيها أمام العالم مما يعده لهم الدواعش، ما يعني المزيد من التعاطف الأوروبي والأمريكي مع طرف بعينه يهمه أن تمضي هذه الخطة مهما كانت مجحفة بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني أولا، ولمقدسات العالم العربي بمسلميه ومسيحييه ثانيا.
تبدو الإزدواجية الداعشية حاضرة في التسجيل الأخير والذي يعزف على احتلال إسرائيل للأرض العربية في فلسطين، على الرغم من أنه وفي أوقات سابقة صدرت فتاوى عدة عن قيادات للتنظيم الداعشي تعتبر أن القتال ضد الحكام في مصر وسوريا والعراق أولوية على قتال المحتل، بل أن عمليات تنسيق واضحة رصدتها القوات الأممية في منطقة الجولان تؤكد وجود تنسيق مباشر بين داعش والنصرة من ناحية الدعم العسكري والإغاثة الطبية، ولم يسبق أي استهداف من قبل التنظيمات المسلحة لإسرائيل، بل ما يبين تهافت الدعوة الداعشية الأخيرة، هو أن ثمة جرحى من تنظيم داعش والنصرة قد تلقوا علاجهم في مستشفيات إسرائيلية، وفي 2014 إعتذرت داعش رسميا بسبب إطلاق نار بالخطأ، والحديث هنا لوزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت.
هل من خلاصة؟
أفضل ما يمكن أن يقال هو ما ورد عن مرصد الفتاوى التكفيرية التابع لدار الإفتاء المصرية، والذي أشار إلى أن خطاب القرشي هو خطاب شخص وجماعة مأزومة، يسعى لتصدير مأزقه عبر منصات متعددة لخلق حالة من الحاضنة الإجتماعية المفقودة، بعدما تم لفظه من عموم المسلمين في العالم، ومع ذلك يتوجب الانتباه للفترة القادمة، إذ أن الغريق الداعشي لا يخشى بلل الدماء في كافة بقاع وأصقاع الأرض، مهما أصدر من بيانات للخداع الإسترتيجي عن توقف عملياته بسبب وباء الكورونا.