- الصحة اللبنانية: 6 شهداء و4 مصابين في غارة إسرائيلية على طريق البص قضاء صور
بعد أقل من عام على إعلان قيام دولة "إسرائيل"، وفي الثامن والعشرين من آذار (مارس) عام 1949، انطلقت العلاقات الدبلوماسية بين تركيا و"إسرائيل"، لتكون تركيا بذلك أول دولة مسلمة تعترف بـ "إسرائيل".
وعبر سبعة عقود، ورغم ما شهدته العلاقة من تقلبات ولحظات تراجع وتوتر أحياناً، إلا أنّها ظلت قائمة، وبقيت بالعموم ضمن مستويات جيدة وفوق الجيدة، ما أكّد اعتبارها نوعاً من علاقات التقارب الإستراتيجي القائمة على مصالح حيويّة ومهمّة لكلا البلدين؛ فما هي أهم المرتكزات التي تأسست عليها العلاقات التركية الإسرائيلية؟ وهل من مهددات بإضعافها؟
تطويق الطوق
"تطويق الطوق"؛ اسم لنظرية ارتبطت بصاحبها الزعيم الصهيوني، أول رئيس وزراء إسرائيلي، ديفيد بن غوريون، قام ببلورتها وصياغتها ونقلها إلى التطبيق مع بداية تأسيس الدولة، في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، وملخصها ببساطة؛ أنّ "إسرائيل" في تلك المرحلة، وخصوصاً مع تصاعد المدّ الثوري والقوميّ والناصريّة في المنطقة، كانت تشعر بوجودها ضمن محيط من الدول العربية المعادية لها، والمهددة لها بشنّ الحرب عليها وإبادتها، فكانت الفكرة ببساطة هي الاتجاه نحو فرض طوق محيط بهذا الطوق.
وهنا اتجه التفكير نحو إقامة علاقات مع دول محيطة للعالم العربي ولها علاقات غير وديّة معه، كما كان في حالة دول مثل إيران وأثيوبيا وتركيا، وبناء على هذا الأساس جاء الحرص على تطوير العلاقات الثنائية مع هذا الدول، وكانت تركيا بالطبع في مقدمة الدول المستهدفة من هذه الخطة، وبناء عليه اندفعت إسرائيل نحو تعزيز وتعميق العلاقات مع تركيا، وهو ما تأكدّ وترسخ خلال الأعوام التالية، مع استمرار حالة العداء مع المحيط العربي.
دُشّنت هذه الإستراتيجية مع زيارة ديفيد بن جوريون، برفقة وزيرة خارجيته غولدا مائير، إلى أنقرة، في آب (أغسطس) من عام 1958، والتي جاءت في ذروة صعود المد القومي العربي إثر قيام جمهورية الوحدة العربية بين مصر وسوريا، وتزايد شعور "إسرائيل" بالتهديد، ونتج عن الزيارة تعزيز العلاقات بين البلدين على مختلف الصعد
قامت الإستراتيجية على مبدأ المواجهة المشتركة مع العرب، وتعززت بفعل سوء العلاقات التركية العربية خلال فترة الخمسينيات والستينيات، إلا أنّ هذا المرتكز في العلاقة شهد تراجعاً تدريجياً في أهميته، وذلك بفعل تطور العلاقات التركية العربية وتحسّنها إلى حدّ ما بداية من منتصف عقد السبعينيات، ومن ثم تزايد مستويات العلاقات الإسرائيلية العربية وتراجع حد الصراع بين العرب و"إسرائيل"، وبشكل خاص منذ عقد التسعينيات من القرن الماضي.
مفتاح للعلاقة مع الغرب
بالنسبة إلى تركيا؛ جاء تأسيس العلاقات مع "إسرائيل" في فترة حرجة من تاريخ الجمهورية، وذلك في بداية الحرب الباردة حين كانت تركيا تبحث عن تأسيس علاقة تحالف راسخة تضمن لها أكبر قدر من الاستقرار وتعزز من أمنها القومي، وهو ما وجدته في اختيار الانضمام والتوجه نحو المعسكر الأطلسي، وهو الخيار الذي تجسّد في انضمامها لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، عام 1952، الذي كانت العلاقة المبكّرة مع "إسرائيل" مفتاحاً أساسياً له؛ حيث كانت "إسرائيل" والعلاقة معها عامل الدفع لتعزيز العلاقات بين تركيا والغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تنظر لـ "إسرائيل" باعتبارها حليفاً إستراتيجياً في المنطقة في إطار المواجهة مع المعسكر الشرقي المعادي، بقيادة الاتحاد السوفييتي.
ورغم تراجع حدّة مثل هذه الحسابات في عالم ما بعد الحرب الباردة، إلا أنّ العلاقة التركية الإسرائيلية تبقى من ضمن أهم الاعتبارات التي تحدد مستوى العلاقات بين تركيا والدول الغربية، وتضمن بقاءها ضمن المستوى الإيجابيّ.
الخصائص الجيوسياسية
يأتي المرتكز الثالث المهم في تأسيس وتعزيز العلاقة بين تركيا و"إسرائيل"، ولعلّه يكون الأهمّ والأكثر ثباتاً، ألا وهو العامل الجيوسياسي، والذي يتأتى من قناعة "إسرائيل" بأهمية الخصائص الجيوسياسية لتركيا؛ فمن وجهة النظر الإسرائيلية تعدّ تركيا دولة مؤثرة في المنطقة، وعضواً في حلف الناتو، ولديها ثاني أكبر جيش في الحلف، والسادس على العالم من حيث الحجم، وهي تمتلك حدوداً جغرافية مع العديد من الدول، وترتبط بعلاقات إستراتيجية مع الداعم الأول لـ "إسرائيل" في العالم؛ الولايات المتحدة الأمريكية.
تترافق هذه النظرة لتركيا مع شعور "إسرائيل" بأنّها حبيسة شريط ساحلي ضيق، وأنّها عالقة في مواجهة دائمة مع أزمة أمنيّة خطيرة، وأنّه لا بدّ لها من عقد تحالفات مع الدولة المهمة في المنطقة، بغرض تأمين وجودها وتأثيرها في المنطقة، وهنا، تبدو تركيا هي الخيار الأول، وذلك بفضل ما تتمتع به من مقومات قوة وقدرة تأثير كبيرة، فضلاً عن دورها الرئيس في التحكم في إيقاع التوازنات في المنطقة.
ومثلاً؛ تبرز، اليوم، أهمية تركيا ودورها في مواجهة النفوذ الإيراني الذي تجد فيه إسرائيل تهديداً لأمنها القوميّ، خصوصاً أنّها دولة عضو في حلف الناتو، أما من وجهة نظر تركيا، فهي تستفيد جيوسياساً من علاقتها مع "إسرائيل" عبر تعزيز مكانتها باعتبارها دولة مركز في المنطقة.
اتجاه تركيا لأداء أدوار جديدة
أما العوامل المهددة بإضعاف العلاقة وتراجعها، فتأتي بداية من اكتساب السياسة الخارجية التركية وظائف جديدة لم تكن في فترة الحرب الباردة؛ حيث باتت أكثر فعالية على مستوى منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يقتضي منها بناء علاقات أوسع مع الأطراف العربية والإسلامية عموماً، ما يعني في كثير من الأحيان اتخاذ خيارات متعارضة مع مصالح "إسرائيل"، وربما ترجيح علاقتها مع أطراف أخرى على حساب العلاقة معها، وذلك في إطار السعي التركي لتعزيز موقع مركزي لها في الإقليم.
ومما تضمنته التحولات في السياسة الخارجية التركية؛ التوجه التركي نحو ممارسة دور إسلامي وعربي فاعل، بالتزامن مع زيادة مصالحها في المنطقة العربية، كلّ ذلك انعكس في تحولات موقفها من القضية الفلسطينية، فباتت النخبة السياسية التركية، وعلى رأسها الرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان، تتجه أكثر فأكثر لتنصيب نفسها في موضع المدافع عن القضية الفلسطينية، وانعكس ذلك في الإدانات المتكررة للممارسات الإسرائيلية، بداية من إدانة اغتيال أحمد ياسين والرنتيسي واتهام "إسرائيل" بـ "إرهاب الدولة" عام 2004، إلى إدانة الضربات الإسرائيلية على لبنان في حرب عام 2006، إلى الموقف التركي المندّد بحروب "إسرائيل الثلاث على قطاع غزة (2008، 2012، 2014)، وصولاً إلى إقامة علاقات مع حركة حماس وفتح مكتب لها في تركيا، ووصولاً إلى الموقف التركي الرافض لقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، كلّ ذلك يعني توليد حالة من التوتر المستمر على مستوى العلاقات السياسية العلنية بين الجانبين.
خرائط جديدة
بالنسبة إلى المنظور الأمني الإستراتيجي الإسرائيلي؛ فقد ظلّ راسخاً أنّ مصلحة "إسرائيل" تكمن في إضعاف وتفتيت وتقسيم الدول في محيطها وتحويلها أكثر فأكثر إلى دويلات وكيانات ضعيفة وعاجزة، مع تفضيل انقسامها على أسس طائفية وعصبيات وهويات فرعية، وإبعادها قدر الإمكان عن طرح مفهوم قومي موحّد للشعوب في المنطقة بما يؤدي إلى تهديدها، وفق هذا التصوّر.
أما تركيا؛ فهي تخالف "إسرائيل" في هذا المنظور، وبالنسبة لها فإنّ مثل هذه المخططات تؤدي بالضرورة إلى الإضرار بها وتهديد وحدة ترابها وأمنها القومي، فأيّ تفجير وتقسيم للمنطقة سيؤدي مباشرة إلى إذكاء نعرات الانقسام والانفصال داخل النسيج التركي المتنوع، وتحديداً في حال قيام أيّ كيانات مستقلة أو كيانات حكم ذاتي للأكراد، ما يؤدي إلى تحريك ودفع القضية الداخلية الأخطر، القضية الكردية، وبالتالي تهديد كيان الدولة التركيّة.
وقد ظهر هذا التباين في المنظورين جلياً مطلع الألفية؛ حين أيّدت "إسرائيل" خيار إسقاط نظام صدام حسين وإضعاف العراق، مع قرار الولايات المتحدة شنّ الحرب عليه، عام 2003، في حين عارضت تركيا هذه الحرب خوفاً من تفكّك البلد وبروز كيان كرديّ مستقل داخله، وكذلك كان الحال في سوريا خلال الأعوام الأخيرة، عندما بقيت الإستراتيجية الإسرائيلية متمسكة بخيار إضعاف الدولة السورية، في حين اختارت تركيا التدخل بشكل حاسم وإنهاء أيّ احتمالات انقساميّة على يد الأكراد في سوريا.
ومع إطلاق تركيا عملية "نبع السلام" ضدّ الأكراد في شمال شرق سوريا، في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، توترت العلاقات بين الجانبين على هذا الأساس، وانعكس ذلك في مواقف مثل موافقة الكونغرس بالإجماع قراراً بالاعتراف بإبادة الأرمن من قبل الدولة العثمانية، وهو ما جاء بضغط من قبل اللوبي الصهيوني هناك، والذي كان له الدور الحاسم طيلة عقود لتعطيل اتخاذ هذا القرار.
ونتيجة لوجود عوامل مختلفة ومتباينة؛ فمن الطبيعي أن تشهد العلاقات بين البلدين تذبذبات بشكل مستمر، وإن كان الاتجاه الغالب والسائد هو استمرار العلاقات بينهما ضمن المستويات الإيجابية.