الكوفية:يتساءل المراقب للمشهد الروسي التركي في الأيام الأخيرة ما الذي جرى ويجري بين موسكو وأنقرة، حتى يمكن أن تصل تحديات الإرادة السياسية إلى مواجهات ومجابهات عسكرية؟.. والتساؤل مربوط ومعقود بعلامة إستفهام وجيهة بعض الشئ: “ألم يكونا من الأصدقاء يوما ما؟.. ألم ينسقا معا الكثير من المواقف؟!
مؤكد أن منطلق السؤال هو الصراع الحادث من حول إدلب المحافظة السورية الوحيدة المتبقية بعض أجزاء منها تحت سيطرة جماعات الإرهاب الأسود التي يدعمها ويمدها الأغا العثمانلي المنحول بالمال والسلاح، وبالخطط والرجال.
بإختصار غير مخل، نحن أمام مشهد تتناسى فيه تركيا التاريخ، وتتعامى عن حسابات التوازن الدولي، ويقودها الخيال المريض إلى يقين يذكرنا بقصة الفرنسي الشهير “لافونتين”، عن الضفدع الذي مضى في تقليد الثور، وخيل له خياله المريض أنه قادر بالانتفاخ المكذوب أن يصل إلى حجم الثور، وفيما هو يحاول ويقلد كان الإنفجار نهايته المحتومة.
اعتقد أردوغان أنه بات الند للقيصر بوتين، وآمن بأن الأخير سوف يصمت على حماقاته مرة وإلى الأبد، وبخاصة حين أسقط للروس طائرة حديثة، وعض بعدها أصابع الندم.
السلطان العثماني المكذوب الذي يحاول إحياء عظام الإمبراطورية العثمانية البائدة، والتي كانت سببًا في الجهل والتخلف والتعاسة وكافة أسباب شقاء العالم العربي لأربعة قرون على الأقل، لا دالة له على التاريخ، ومن أين له ذلك وهو الذي لا يحمل شهادة جامعية أو عرف عنه رغبة حقيقية في تجذير الأشياء أو مقاربة القضايا التاريخية مقاربة حقيقية.
الذين يتساءلون لماذا وجه القيصر نيران مدافعه لجنود الأغا على الأراضي السورية، ربما ليس لديهم علم من كتاب الكراهية القائمة تحت الجلد الروسي تاريخيا لكل ما هو عثمانلي، فقد نشبت حروب بين الجانبين ما بين القرنين السادس عشر والعشرين، انتصر الروس في جلها ولم يحالف النصر العثمانيين إلا نادرا وفي أجزاء قليلة من مساحات الصراع.
كانت حروب القياصرة ضد العثمانيين أحد أسباب إنهيار إمبراطورية الرجل المريض العثمانية، وقد اقتطع الروس “خانية القرم” قسرا من الأتراك، ولدى الروسي رؤية عن الرجل التركي الجيد.. أنه التركي الميت، ومن نتائج الحملات التأديبية للأتراك أن أجبروا على توقيع معاهدات قاسية ومجحفة سمحت بمرور السفن الروسية من البوسفور دون قيود.
حين تحرك القيصر إلى سوريا كان هدفه الوحيد القضاء على الأصوليات الخبيثة، وجماعات الإسلام السياسي التي أرادت أن تستولي على النظام في البلاد، ضمن سياق ونطاق موجة الربيع العربي المغشوش، الأمر الذي فهم القيصر أنه هو المقصود وليس العرب، لا سيما وأن تلك الجماعات نشأت في أحضان الولايات المتحدة الأمريكية بنوع خاص، ولم يكن دورها سوى الخنجر في الخاصرة الروسية، في محاولة لهدمها من الداخل، بعد أن ارتفع صوتها الأممي من جديد، وبدت كرقم صعب مرة أخرى على خارطة الشطرنج الإدراكية.
لم تكن مطامع وشهوات قلب الأغا المزيف لتغيب عن أعين الثعلب الروسي، الذي بدل حظوظ روسيا، وعاد بها لتتسنم من جديد هرم آسيا، وتعود لمنازعة الصقر الأمريكي قمة العالم.
علم القيصر مسبقا أن العثمانلي ليس أكثر من أداة للعم سام يستخدمها في تحقيق أهدافه المرسومة بعناية منذ العام 1997 عبر ما يعرف بـ “وثيقة القرن الأمريكي”، والتي أسس لها المحافظون الجدد، وحملت رؤية واحدة، جعل القرن العشرين قرنا أمريكيا بإمتياز.
في العام 2010 كان باراك أوباما رجل التحالفات مع جماعات الإسلام السياسي، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون يضيفان اللمسات الأخيرة على الإستراتيجية التي ستلعب فيها تركيا دور الداعم الرئيس للثورات العربية المغشوشة، وبدا وكأن الخطة تسعى لإيقاظ الأحقاد العثمانية الراقدة تحت الصدور تجاه العرب الذين طردوا الأتراك شر طردة من بلادهم، ومحاولة لملمة أشلاء الإمبراطورية القديمة مرة جديدة، وقد أطلق الأمريكيون على خطتهم الجديدة “الإستدارة نحو آسيا”.
أدرك القيصر مبكرا أن الدور التركي هو دور المقدمة ورأس الحربة في المشروع الأمريكي الأممي الجديد، ولهذا فضل طريق الإحتواء على سبيل المواجهة، وهدفه البعيد إنهاك العثمانلي من سوريا شرقا إلى ليبيا غربا على ساحل المتوسط، وفيما بينهما سوف يتوالد القلق وترتبك الدولة التركية، ولاحقا تتعالى الأصوات بإسقاط الأغا أردوغان.
في الداخل السوري كان القيصر يبادر من أجل الدفاع عن مصالح بلاده الإستراتيجية، والقاصي والداني يعلم أن الحلم الروسي منذ زمن بطرس الأكبر وكاترينا العظيمة كان يتمثل في الوصول إلى المياه الدافئة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي تحقق من خلال العلاقة العضوية السورية ـ الروسية، عبر عدة عقود، وفي الخلف من المشهد حديث طويل عن الغاز الروسي وممراته إلى العالم الخارجي.
من على البعد كان القيصر يراقب أوهام الأغا في سوريا، وهي التي استولت عنوة على لواء الأسكندرون، المعروف باللواء السليب حتى الساعة، كما وضع تحت أعينه تحركات الإرهاب والإرهابيين، من دواعش وقاعدة، وجبهة النصرة، وأحرار الشام، وكافة المجموعات الظلامية التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي ليس لها سوى هدف واحد، هو بسط سيطرة تركيا على سوريا بآليات مختلفة ومتباينة.
لم يتوقع الأغا المنحل والمحتل، أن تقوم القوات الروسية بإغتيال جنوده، لكن ما ذنب الروس إذا كان الأتراك يختبئون وسط الإرهابيين ليحصدهم الموت حصدا.
رهانات الأغا دائما خاسرة، فبعد أن أفشل المصريون الحلم الأردوغاني في 30 يونيو 2013، حاول جاهدًا أن يجعل من سوريا موقعًا وموقعًا بديلا لإمبراطوريته الخاسرة، غير أن الروس كانوا له بالمرصاد، وهم وإن سمحوا له بتحرك ذات اليمين مرة أو ذات اليسار تارة، فإن الأمر لا يتجاوز نظرية “الخيط والعصفور”، بمعنى أن الطير لا يبارح مكانه إلى ما هو أبعد من مسافة الخيط المربوط به، وحين يحاول تجاوزه، يضحى الخيط أداة بتر وقطع، قد تكلفه حياته.
الذين يقرأون لا ينهزمون ، وأردوغان قارئ سيئ للأزمنة والأحداث، مندفع في حماقة كما وصفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذات مرة، والراوي يخبر أن القيصر قد سأم جنونه وأكاذيبه، وهاهو بين المطرقة والسندان على قارعة الطريق في إنتظار الأجل المحتوم.