الكوفية:تتوالى الصفعات التي تضرب الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة حتى من أقرب حلفائها التاريخيين، ومن الداخل الإسرائيلي، الآخذ بالتفكُّك.
تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - وبلاده تاريخياً من أشدّ حلفاء دولة الاحتلال - لا تتوقّف عن كونها صفعة شديدة للأخيرة، بل باعتبارها مؤشّراً نحو المزيد من المواقف الأوروبية، المطالبة والعاملة على الالتزام بـ»حلّ الدولتين».
كان ردّ فعل يائير نتنياهو نجل رئيس الحكومة يتجاوز كلّ حدود الأدب، والوفاء لدولة هي التي ساعدت الدولة العبرية في إنشاء برنامجها النووي، حيث وجّه حديثه لماكرون قائلاً: «اذهب إلى الجحيم» ولم يكن ينطق بلسان حاله.
يعرف الجميع أن فرنسا كانت من أوائل الدول الغربية التي شاركت في غرفة العمليات الحربية على غزة، وتبنّت بالكامل الموقف الإسرائيلي قبل أن تبدأ بالتراجع شيئاً فشيئاً.
الموقف الفرنسي الذي عبّر عنه ماكرون ينطوي، أيضاً، على اعتراض أوروبي للسياسة الأميركية تجاه الصراع الدائر، وربما يكون مؤشراً إضافياً على النزعة الاستقلالية لدول الاتحاد الأوروبي عن السياسة والمصالح الأميركية التي أصبحت الوكيل الحصري تقريباً لدولة الاحتلال.
على أنّ ثمّة تحوّلاً، أيضاً، في مواقف وسياسات الإدارة الأميركية الراهنة تجاه دولة الاحتلال، ودورها والحاجة إليها، وقد تجلّى ذلك في نتائج اللقاء الأخير لنتنياهو مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
«أميركا أوّلاً»، الشعار الأثير لترامب، يعني أن على كل من له علاقة بأميركا ألا ينتظر منها الشراكة، أو أن ينتظر منها اتخاذ أيّ إجراء لا يخدم مباشرة مصالح الولايات المتحدة.
على الكلّ أن ينصاع لأوامر الإمبراطور الأميركي، الذي يقتصد جدّاً في تقديم أيّ دعمٍ يكلّف الخزانة الأميركية.
كان حديث ترامب عن الدعم السخيّ الذي تقدّمه أميركا لدولة الاحتلال، وبالتالي رفض تصغير أو تخفيف الرسوم الجمركية على الواردات من الأخيرة مؤشّراً مهمّاً على اختيارات ترامب.
بعد كل الدعم الذي قدّمته أميركا لدولة الاحتلال في حربها الإجرامية والهمجية على فلسطين، ولبنان، وسورية، واليمن، اتضح للإدارة الأميركية أن دولة الاحتلال فشلت في تحقيق أيّ أهداف، سوى ارتكابها المزيد من المجازر، والإبادة الجماعية، التي تنال من سمعة أميركا، وتقصف ما تبقّى من أخلاقيات تدّعي الأخيرة الالتزام بها وحمايتها.
هذا يعني أن أميركا لم تعد تعتمد على الدور التاريخي الذي أرادته القوى الاستعمارية من إنشاء إسرائيل، وأن كل ما تقوم به من عدوان وجرائم إرباك أمن ومصالح أميركا.
ترامب صاحب سياسة الصفقات لا يريد أن يفتح الخزانة الأميركية إلّا لاستقبال الأموال، سواء بالتهديد، أو الابتزاز، أو برضا من يملكون المال.
من يملك المال في المنطقة، هي دول الخليج والعربية السعودية، التي وعدت باستثمار ما يزيد على تريليونين ونصف التريليون من الدولارات عدا الوعد الإيراني، بفتح المجال أمام الاستثمارات الأميركية، وضخّ مئات مليارات الدولارات، في الاستثمار لصالح أميركا.
في المقارنة بين من يعتمد على مليارات الدولارات سنوياً التي تكلف الخزانة الأميركية وبين من يصبّ الأموال بسخاء في «الخزانة»، فالأرجح أنّ ترامب سيختار من يدفع له. بهذا المعنى فإنّ السعودية والإمارات ودول الخليج تحظى بأهمية وربّما بأولوية بالنسبة لأميركا، وليس الدولة العبرية التي تفسد التطلّعات الأميركية من أهل المنطقة.
ينطبق هذا على إيران، التي يسعى ترامب جاهداً، لإبرام اتفاق بشأن برنامجها النووي، خصوصاً أنّ خيار الحرب مع إيران ينطوي على تكاليف باهظة، وربّما يجرّ الصين وروسيا لإبداء اهتمام أكبر إزاء الاقتراب من المنطقة أكثر ممّا هو عليه الحال، هذا بالإضافة إلى أن الحرب ستربك تماماً مخطّطات ترامب تجاه مصالحه مع دول الخليج.
السياسة التي تعتمدها إدارة ترامب تعكس أولوية الاهتمام بالأوضاع الداخلية، وتشير إلى التناقض بين الكارتيلات الوطنية، وكارتيلات العولمة التي تعيش عليها دولة الاحتلال لعقود، وستعكس آثارها على الاقتصاد الإسرائيلي المنهك والمستنزف، وفي الداخل الإسرائيلي تتعمّق الانقسامات السياسية والمجتمعية في ظلّ أوضاع اقتصادية متردّية، وفي غياب الثقة والشعور بالأمن. بعد أن حذّر عديد المسؤولين من سياسيين وأمنيين سابقين، كتب رئيس الحكومة الأسبق إيهود أولمرت مقالاً، حذّر فيه من أنّ اندلاع حرب أهلية بات وشيكاً.
جيش الاحتلال الذي يتباهى به الإسرائيليون، حتى يُقال إنه من صنع دولة الكيان، ويحميها ويحافظ عليها، قد دخل مرحلة التصدُّع وربّما التمرُّد.
الجيش منهك، ولا يعرف لماذا يُقاتل وإلى متى، ويُعاني من تردّي الأوضاع النفسية، ومن الإحباط. آلاف ضبّاط وجنود جيش الاحتلال من العاملين، ومن غير العاملين في الاحتياط، عبّروا عن رفضهم للاستمرار في خدمة الأهداف السياسية والشخصية لنتنياهو وحكومته الفاشية.
إذا كانت قوّة جيش الاحتلال تكمن أوّلاً في تفوّقها الجوي، فأن تكون العريضة الأولى من القوات الجوية، قبل أن يلحق بها ضباط وجنود من سلاح البحرية والمدرّعات، والاستخبارات، فإن ذلك ينطوي على دلالات خطيرة وتداعيات لاحقة بسبب ردود الفعل من نتنياهو وحكومته ووزير حربه.
للمرّة الأولى يطالب المطالبون بالإفراج عن الرهائن من خلال صفقة، وبوقف الحرب الدموية التي تستهدف المدنيين الفلسطينيين بالإضافة إلى خطورتها على حياة الرهائن والجنود.
إن انتقال هذا التمرُّد إلى أطباء في جيش الاحتلال، وإلى الأكاديميين، يؤشّر على أنّ كرة الثلج آخذة في التدحرج نحو استقطاب فئات أخرى في المجتمع الإسرائيلي، خصوصاً في ضوء ازدواجية السياسة الحكومية التي تتهم المطالبين بوقف الحرب العدوانية بالخونة، بينما تصمت عن امتناع «الحريديم» عن الخدمة في الجيش.
إن كانت هذه الاستنتاجات مقترنة بالوقائع، فإنّها تصل إلى حدّ القناعة بأن دولة الاحتلال قد دخلت مرحلة الانهيار.
لمن لا يعجبه الكلام هذا هو ما فعلته غزّة التي زلزلت الكرة الأرضية، دون تجاهل الثمن الباهظ الذي دفعه ويدفعه الفلسطينيون في قطاع غزّة والضفة الغربية، ولا عذر لمن يتخلّف عن مواصلة الكفاح.