في قاعة محكمة إسرائيلية ضيقة، يحمل جداراها صدى صمت العالم، جلس طفلٌ فلسطيني بعينين واسعتين تكشفان عن ألمٍ أكبر من عمره. آثار زرقاء على وجهه، ويدان مرتجفتان، ونظرةٌ تحمل سؤالًا واحدًا: "لماذا أنا هنا؟". طارق أبو خضير، الذي لم يتجاوز الـ16 ربيعًا، لم يكن سوى واحدًا من مئات الأطفال الفلسطينيين الذين تحولت طفولتهم إلى سجلٍّ للاعتقالات والتعذيب والانتهاكات تحت ذرائع أمنية غامضة. لكن صورته التي التقطت خلال جلسة محاكمته لم تكن مجرد شاهد على معاناة فرد، بل كانت مرآةً تكشف انهيارًا أخلاقيًا عالميًا في زمنٍ يُنصَب فيه العدل على مذبح المصالح.
قصة طارق ليست استثناءً في سياق الاحتلال الإسرائيلي، الذي اعتقل منذ عام 2000 أكثر من 12 ألف طفل فلسطيني، وفقًا لتقارير منظمات حقوقية محلية. لكنها قصةٌ تختصر مفارقةً مروعة: لو كان هذا الطفل من دولة أخرى، لتحولت صورته إلى أيقونة عالمية للظلم، تُحرّك الشوارع وتُغلق السفارات وتُعقد القمم. فالأطفال في سوريا أو أوكرانيا أو ميانمار يجدون من يصنع لهم قضيةً إعلاميةً تليق بإنسانيتهم، أما طارق وأقرانه الفلسطينيون، فمصيرهم أن يُختزَلوا إلى "أرقام" في صراعٍ طويل، أو إلى "مقاتلين" في سرديةٍ تبرر انتزاع طفولتهم.
المفارقة الأعمق تكمن في أن الانتهاكات التي يتعرض لها طارق وأطفال مثله مُوثَّقةٌ بشكلٍ لا لبس فيه. تقارير منظمة "اليونيسف" تشير إلى أن الاعتقالات العسكرية للأطفال الفلسطينيين تتم غالبًا وسط إجراءات قاسية: تقييد الأيدي، ووضع العصابة على العينين، والحرمان من الطعام والشراب، والتعرض للضرب المبرح والتهديد، كتكتيك لانتزاع اعترافات. في حالة طارق، كانت الأدلة جسديةً واضحة: انتفاخات في الوجه، آثار جروح، وعينان حمراوان من البكاء أو الضرب. ومع ذلك، ظلت هذه الأدلة حبيسة أدراج المحاكم العسكرية الإسرائيلية، التي تُدين أكثر من 99% من الفلسطينيين المُحالين إليها، بحسب تقرير لجنة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان.
الغرباء في هذه القصة ليسوا الفلسطينيين وحدهم، بل هم أولئك الذين يرتدون عباءة "الحضارة" ويختارون العمى. فالصحف الدولية الكبرى التي لا تتردد في نشر صور الأطفال ضحايا الحروب بأخرى تنقلب إلى برودٍ غريب حين يتعلق الأمر بفلسطين. هل يعود هذا إلى أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي صار "مُستهلكًا" إعلاميًا؟ أم أن الإحساس بالذنب التاريخي لأوروبا تجاه اليهود حوّل فلسطين إلى منطقةٍ مُحرَّمةٍ على النقد؟ الأسئلة معلقة، لكن النتيجة واحدة: طفلٌ مُعذَّبٌ يُعامَل كخلفيةٍ في مشهدٍ سياسي، لا كإنسانٍ له حقوق.
في عالمٍ يتباهى بمنظمات حقوق الإنسان، يبدو الصمت المُطبق حول قضية طارق سخريةً قاتلة. فحين يُعتقل طفلٌ فلسطيني، تتحرك الآليات الحقوقية ببطءٍ يُشبه المشي في طينٍ غارق. البيانات تُنشر بلغةٍ حذرة، والتحقيقات تُعلّق على أمل "التعاون" مع سلطات الاحتلال، والضغوط الدولية تذوب في الهواء. لماذا لا تُوقِف منظمة "هيومن رايتس ووتش" حملاتها عند كل حالة اعتقال؟ ولماذا لا تُهدِّد الحكومات الغربية بقطع العلاقات الدبلوماسية، كما تفعل في أزماتٍ أخرى؟ الجواب بسيطٌ وقاسٍ: لأن الفلسطيني، في المعادلة الجيوسياسية، هو الرهينة الأبدي الذي يُباع ويُشترى في سوق المساومات.
حتى مجلس الأمن الدولي، الذي تأسس ليحمي الضعفاء، يتحول إلى مسرحٍ للهزليات حين تُطرَح قضية فلسطين. فالفيتو الأمريكي يلوح في الأفق كسيفٍ مسلط على أي قرارٍ يُنصف الفلسطينيين. وحين اجتمع المجلس عام 2023 لمناقشة عدوانٍ إسرائيلي على غزة، تحول النقاش إلى جدالٍ حول "حق الدفاع عن النفس"، بينما غابت كلمة "الأطفال" عن البيان الختامي. هذه الازدواجية ليست خفية: فالقانون الدولي يُطبَّق بقسوةٍ على دولٍ عربيةٍ أو إفريقية، بينما يُعفى الاحتلال الإسرائيلي من المحاسبة تحت مظلة "التفاوض" و"الحل السلمي"، الذي طال انتظاره 75 عامًا.
لكن طارق وأطفال فلسطين ليسوا مجرد ضحايا. إنهم يصرخون بسؤالٍ يهز ضمير العالم: ما قيمة الاتفاقيات الدولية إن كانت تُخرَق كل يوم؟ ما معنى اتفاقية حقوق الطفل التي وقعتها إسرائيل عام 1991، بينما تقبع أجساد الأطفال في زنازينها؟ وكيف يُصدَّق أن دولًا تدعي الالتزام بـ"القيم الإنسانية" توفر غطاءً لجرائمٍ تُرتكب باسم الأمن؟ القضية هنا ليست سياسيةً فحسب، بل أخلاقية. فالصمت على انتهاك طفلٍ فلسطيني هو صمتٌ على انتهاك مبدأٍ إنساني كامل.
في الختام، طارق أبو خضير ليس مجرد اسمٍ في خبرٍ عابر. إنه اختبارٌ للإنسانية جمعاء. فالأطفال الذين يُعذَّبون في سجون الاحتلال لا يحتاجون إلى تعاطفٍ مؤقت، بل إلى عدالةٍ تنتزعهم من براثن نظام فصل عنصري يختزلهم إلى "تهديدات ديموغرافية". صورته البائسة على شاشات التلفاز ليست دعوةً للشفقة، بل صرخةٌ تُذكِّر العالم بأن شرعية القانون لا تُبنى بالانتقائية، وأن الحقوق لا تُمنح، بل تُنتزع. فلسطين، بقضيتها وأطفالها، لن تكون مجرد ذكرى في كتب التاريخ، بل ستظل جرحًا نازفًا في جبين كل من يرفضون أن يكونوا شركاء في الصمت.