كنتُ أعشق قطرات المطر وهي تتسرب من رأسي إلى رقبتي فأشعر بالانتشاء، أُحسّ بأن بقايا شُعيرات رأسي تحولت إلى حوض من نبات الريحان بلّله الندى قبل طلوع الشمس، كنتُ أشعر بأن غيمة شفافة رقيقة مملوءه بماء المطر تحط فوق صدري توزع النشوة في كل شراييني، كنت أتجنب السير تحت مظلات البيوت البارزة، اعتدتُ أن أبحث عن البلل، كانت قطرات المطر الباردة تتسرب من رأسي وكتفيَّ إلى أعماق قلبي تتوحد مع دقاته، ترسم في قلبي صورة الرباب والمُزن الشفيف في لوحة هدوءٍ سماويةٍ فنية، امتزجتْ فيها بسمات ثمار الشجر ونشوة الجذور في الثرى، اعتدتُ في اليوم المطير أن أسمع مقطوعة نشيد الأشجار على وقع صوت سيمفونية زخات المطر المعزوفة على لحن الريح وطبول الرعد، ظللتُ مدة طويلة مغرماً بالاستعداد لاستقبال فرقة موسيقى المطر، يتقدمها، قوسُ قُزح المايسترو رئيس فرقة العزف بألوانه الخلابة، يرسل وميض برق إشارة لعزف سيمفونية الشوق لقطرات المطر، اعتدتُ أن أبحث عن زاوية تمكنني من رؤية سيل المطر وهو يتحول إلى دفق طري، يمتزج بذرات الغبار في الشوارع، يسلبها من الريح، يحولها إلى مرهم ذائب طري يطلي بها جذور الأشجار، يعيد لها نضارة زهورها وأوراقها، كنت ألتذ بموسيقى غيتار المطر المعزوفة على صفائح الزنك التي تغطي السقوف!
مَن حوَّلَ عشقي للمطر إلى كرهٍ شديد في شهر كانون الأول 2023 في غزة؟
مَن دمج صوت الرعد والبرق بصوت قذائف الدمار وقنابل النابالم الحارقة فأصبح المطر مخيفاً مرعباً؟
هل يعود السبب إلى خيمة لجوئي المصنوعة من قطع النايلون البالية؟ أم يعود إلى طائرات الدمار وتدمير البيوت وقتل الأبرياء؟ أم أنه يعود إلى الذين أشعلوا فتيل حربٍ غير محسوبة العواقب؟ أم أن السبب يعود إلى أن هزال جسدي أفقدني الإحساس بمتعة عزفه؟
ظللتُ أحاول ألا أقنع نفسي بأن المطر في خيمتي كابوسٌ مزعجٌ لم أعد أطيقه، لكنني فشلتُ وأنا أرى الخيام الممزقة حولي فأزداد تعاسةً ووجوماً، هكذا حوَّلت الخيام الممزوجة بأصوات طائرات الدمار عزفَ المطر إلى صوت نفيرٍ مرعب ينطلق من بوق معسكر جيش يستعد للقتال، المطر في خيمة اللجوء كابوسٌ مُرعب، تمنيتُ وأنا أراقب الغيوم المطيرة في السماء أن تمر الغيومُ على خيامنا مرور الكرام، وألا تفرغ دفق مائها على مِزق خيامنا، المطر يُغرق فراش الأطفال، النساء يهربن من الخيام إلى شرفات الأبنية المسقوفة وهن يحملن أبناءهن حتى لا يصابوا بالبلل والمرض!
ذات ليلة قررتْ الرياحُ الباردة والغيوم السوداء أن تغتال كل حبي المكنون للمطر، وتنزع شوقي لعزفه عندما كنت أملك سقف بيت يؤويني، قررتْ الغيومُ السوداء في تمام الساعة الثانية صباحاً أن تلقي حمولتها المخزونة من المياه فوق خيامنا المهترئة، لأول مرة أستيقظ من الغفوة السريعة بالضبط كجندي كره أوامر العمل في ثكنته العسكرية وهو لم يرتح في ساعات النهار دقيقة واحدة، ولما سمح له قائده بالنوم وظن أنه غفا دقائق معدودة، حتى انطلق بوق النفير يأمره بالنهوض ليشارك في المعركة.
أزحتُ البطانية عن نصفي العلوي، اعتدلت استعداداً وأنا أحدق في سقف الخيمة، كنت أشاهد دوائر النايلون في سقف خيمتي تمتلئ بماء المطر وتتكوّر داخل الخيمة ولا تنحدر إلى الخارج، شرعتْ تنزُّ من شقوق النايلون تبلل الفراش، كان البرد شديداً، استيقظ أربعة من أقاربي ينامون إلى جواري، كلهم يستعدون لمواجهة معركة هطول المطر، كنت أنام في الخيمة كجندي استطلاعٍ ألبس كل ثيابي، حتى معطفي لم أكن أخلعه عند النوم، لأن فيه جواز سفري وهويتي وبقايا النقود والأوراق، خشية أن نؤمر بمغادرة المكان، كل ملابسي لم تستطع حجب لسعات البرد الشديدة،
بدأت أسمع بوضوح صراخ الأطفال والنساء، ازداد دلف قطرات المطر في خيمتي من شقوق النايلون العديدة، تسربت من البالونات المتكورة المملوءة بالمياه، بلل الماءُ فراشنا، طوينا الفراش، علقناه على خطافات من الحديد الصدئ، وشرعنا في البحث عن العصيّ الطويلة لرفع كرات المطر في سقف الخيمة إلى الأعلى حتى تتسرب إلى الخارج، ولكننا كنا نجدها عادت بعد ثوانٍ قليلة، لأن دفق المطر كان شديداً، انشغلنا بوضع كل ما نملكه من أوعية فارغة تحت المطر المتسرب إلى فراشنا، ونحن ندعو أن يتوقف المطر لكننا لم ننجح، امتلأت معظم الأوعية بسرعة شديدة، تسرب جزء منها إلى الفراش، لم نتمكن من إفراغها بسرعة خارج الخيمة.
حاولت أن أرفع بالوناً مائياً بنخزه بعصا المكنسة، غير أنني لم أكن أتوقع أن قطعة النايلون لم تعد تحتمل، فأفرغت حمولتها فوق رأسي، تسرب الماء البارد إلى كل جسدي الهزيل، اغتال الدفق البارد كل حبي الشفيف للمطر، أمضيتُ شهراً ونصف الشهر أعاني من السعال والإنفلونزا.
شرع سكان الخيام بعد انحسار المطر في نشر فراش نومهم فوق الخيام وعلى الأسوار لتجفيفها.
سارع الجميع لرفع الفراش عن الأرض، لأن ثمة طوفاناً جديداً من الماء لم يأتِ من سقف الخيمة بل جاء من الشارع، لم يُحسب له حساب داهم الرصيف، وتسلل إلى خيمتنا أغرق معظم الفراش!
عندما توقف المطر خرجنا نتفقد خيمتنا وننشر فراشنا على سياج الخيمة، اكتشفت أن هناك ثروةً خلفتها الأمطارُ تقع بالضبط أسفل خيمتنا وسط كومة من النايلون، هذه الثروة هي بالون مائي يحتوي على أكثر من خمسين لتراً من ماء المطر النقي الصافي جرى تخزينه أسفل خيمتنا، بالإضافة إلى مخزونات الأواني، بسرعة ألقينا القبض على هذا المخزون، أفرغناه في غالونين فارغين حتى نستخدمه للشرب ولكي نغتسل بماء حلو بعد أن اعتدنا أن نغتسل بماء البحر الأُجاج!