عشيةَ الموعد المنتظر الذي طال غيابه أكثر من شهر على أي حال، والخاص بتقديم واشنطن عرضاً نهائياً لصفقة التبادل التي ما زالت تراوح مكانها منذ أول وآخر اتفاق تبادل بين الطرفين وُقّع في شهر نوفمبر الماضي، خرجت وزارة الخارجية الأميركية بتصريح ملتبس يدّعي بأن اسرائيل قبلت المقترح الأميركي، وأن الإدارة الأميركية تعمل على جَسر الهوّة بما يتطلب مرونة أكبر من قبل إسرائيل وحماس، هذا في الوقت الذي لم يتوقف فيه رئيس الحكومة الإسرائيلية عن التصريح ليل نهار، عن أنه لن يخرج من محور فيلادلفيا، وذلك بعد مؤتمر صحافي عقده قبل أيام، وبعد أن اتخذ قراراً من الحكومة المصغرة وافق فيه أعضاؤه باستثناء وزير الحرب يوآف غالانت على خرائط نتنياهو التي توضح أهمية الاحتفاظ بالمحور الذي يعدّ بالطبع عقبة كأداء في طريق عقد الاتفاق.
ومحور فيلادلفيا واحد من «إضافات» عديدة أضافها نتنياهو على المقترح الأميركي المعروض منذ أيار الماضي والذي أخذ عليه موافقة مجلس الأمن وموافقة حماس منذ الثاني من تموز الماضي، واحتفاظ اسرائيل بمعبر فيلادلفيا لا يواجه اعتراض حماس وحسب، بل ويرفضه الوسيط المصري أيضا، لأنه يمس بسيادة مصر على حدودها ويعتبر خروجاً على معاهدة كامب ديفيد التي تحدد طبيعة العلاقات بين مصر واسرائيل، ونتنياهو قال بالحرف الواحد، بأنه لن يخرج من معبر فيلادلفيا لا في المرحلة الثانية، أي بعد 42 يوماً من بدء سريان الاتفاق في حال الموافقة عليه، ولا بعد 42 عاماً، فمن أين جاءت الخارجية الأميركية بما أعلنته مساء الأول من أمس؟!
يجيب على هذا التساؤل الكاتب والمحلل السياسي الأميركي المقروء جداً توماس فريدمان، حيث كتب في «نيويورك تايمز» قائلاً بأن نتنياهو خدع جو بايدن في المحادثات المتكررة بينهما، حين كان يوهمه بموافقته، وعلّق قائلاً بأن المسؤولين في الشرق، مشيراً الى نتنياهو بالطبع، يقولون الحقيقة في العلَن ويكذبون في السر، أي أن نتنياهو كان يكذب على بايدن، فيما كان يصدق فيما يقوله علناً، وقد كانت تجربة «التفاوض» حول الصفقة طوال الأشهر الماضية دليلاً دامغاً على ذلك.
والحقيقة أنه منذ أن خرج بايدن من السباق الرئاسي، بل قبل ذلك بوقت طويل، لم يعد ينتقد نتنياهو علناً، رغم أن اجراءات نتنياهو ضد ما تعلنه الادارة الأميركية قد تعاظمت، منذ اجتاح رفح مطلع أيار الماضي، أي منذ أربعة أشهر من الآن، وقد قويت شوكة نتنياهو بعد خطابه في الكونغرس، وكلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، انخفضت قدرة البيت الأبيض على انتقاد نتنياهو أو على الإعلان عن خلافه معه، وذلك خشية فقدان أصوات اليهود الأميركيين، وآخر ما قاله بايدن هو أن نتتياهو لا يفعل ما يكفي.
أما لماذا بات بايدن وحتى كامالا هاريس عاجزين عن انتقاد نتنياهو، ولو بالحد الأدنى، كما يفعل الإسرائيليون أنفسهم، مع نسبة وصلت الى 82% من الاسرائيليين الذين هم مع عقد الصفقة، فهذا سؤال أجابت عليه صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية يوم الاثنين الماضي، بالقول بأن تردد البيت الأبيض في الضغط على نتنياهو لعقد الصفقة يعود الى الخوف من أن يضر ذلك بالحملة الانتخابية للمرشحة هاريس، وذلك لأن ذلك الضغط سيعتبر بمثابة إجبار لنتنياهو على الاتفاق، وذلك كما قال أرون ديفيد ميلر العضو البارز في مؤسسة «كارنغي» للسلام.
وقد حاول بايدن خلال ما يقارب العام من حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة والضفة الفلسطينية معاً، أن يفصل ما بين نتنياهو واسرائيل، حتى لا يعتبر خلافه مع نتنياهو بمثابة تراجع عن حبه وتأييده، بل والتزامه غير المسبوق بالدفاع عن اسرائيل، ليس وهي تتعرض لعدوان خارجي، وليس وهي معتدية وحسب، بل وهي ترتكب جرائم الحرب، بل وهي تمارس حرب إبادة جماعية وفق تقدير المنظمات الدولية ذات الاختصاص، من محكمة العدل الدولية الى الجمعية العامة للأمم المتحدة وحتى مجلس الأمن.
لكن بايدن كعادته فشل في كل ما يخص هذا الملف، بل هو فشل منذ دخل البيت الأبيض في تحقيق أي شيء يذكر، وهنا لا نجد ما يفيد من إعادة سرد كل ما أعلنه بايدن بخصوص الملف الفلسطيني الذي تعرض للانتهاكات الإسرائيلية، وحاول بايدن كصديق وفي لإسرائيل أن يكبح جماح التطرف الإسرائيلي من زاوية أنه يضر بالمصالح الإستراتيجية لإسرائيل، وينجم عن اعتبارات سياسية لفريق حاكم، إلا أنه فشل، ويبدو أن بايدن وإدارته فيما تبقى لهما من وقت هو أقل من شهرين، في البيت الأبيض، يفعلان فقط ما يحافظ على حظوظ هاريس في الانتخابات.
لكن هذا الهدف محفوف بالمخاطر ارتباطاً بنتنياهو نفسه، الذي بات بمقدوره، أن يقلب الطاولة على الديمقراطيين، الذين رغم كل شيء، يفضل عليهم الجمهوريين، خاصة مع مرشح مثل دونالد ترامب، ونتنياهو يتذكر جيدا أيام باراك أوباما، خلال ولايتين حاولت خلالهما واشنطن بالتركيز على المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية أن تكمل ما لم يكمله الرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون، رغم محاولته آخر أيامه في كامب ديفيد مع الرئيس الراحل ياسر عرفات واهود باراك، ولا ينسى نتنياهو بأن توقيعه لاتفاق الخليل عام 1997 في واي ريفر، كان السبب في فقدانه مقعد رئيس الحكومة، بعد أن شغله لأول مرة قبل ذلك بعام، ولا ينسى كذلك أنه في آخر ايام اوباما سمحت أميركا لمجلس الأمن بتمرير قرار ضد الاستيطان عام 2015، في نفس العام الذي أبرمت فيه الاتفاق مع إيران حول برنامجها النووي.
ويبدو بأن نتنياهو بعد أن نجح في الاستمرار بحرب الإبادة كل هذا الوقت، لن يتراجع فيما تبقى من وقت على يوم الانتخابات الأميركية، حيث يمكنه في حال فوز ترامب، أن يرتاح تماماً، لأنه سيتعامل مع الرئيس الأميركي حينها كمن كان السبب في عودته للبيت الأبيض، واذا كان في ولايته السابقة قد قام بتوجيه ترامب كما لو كان دمية بين يديه، أو كمثل رجل آلي قام بتحريكه وفق «ريموت كونترول» بيده، فإنه هذه المرة، يمكنه أن يعامله كما لو كان موظفاً عنده، وهكذا يبدو نتنياهو اليوم هو من يحدد الرئيس الأميركي القادم، أو من بيده حسم نتيجة الانتخابات، وربما كان هذا مبعث دعوة الكونغرس بأغلبية نوابه الجمهوريين له قبل أسابيع لإلقاء خطاب أمامه، وفي ظل قيادته لحرب إبادة جماعية يشعر العالم كله بالغضب والحنق عليه بسببها، فيما اعتبر تكريماً لم تحظ به أية شخصية أجنبية منذ ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، وذلك كسباً لود نتنياهو ومن ورائه أصوات اليهود الأميركيين، حيث أدرك الجمهوريون بأن حظ مرشحهم بات معلقاً بيده.
وفي محاولة لقراءة ما يمكن أن يفعله نتنياهو بهذا الخصوص، يقول فريدمان في مقاله سابق الذكر، أنه_أي فريدمان_ لن يتفاجأ بناء على تقاريره وكل سنواته السابقة في مراقبة نتنياهو، اذا قام بتصعيد الحرب فعلياً في غزة بين اليوم ويوم الانتخابات، وذلك لدفع هاريس الى مأزق أن تختار بين أن تنتقده علناً وتخسر الأصوات اليهودية، أو أن تبتلع لسانها وتخسر أصوات الأميركيين العرب والمسلمين، خاصة في ولاية ميتشيغان.
أما نتنياهو فلا يكتفي بمواصلة الحرب في غزة، رغم انهاك الجيش وفشله العسكري، ورغم هروبه من الكمائن، وخروجه الفعلي من التجمعات السكانية، تجنباً لحرب الاستنزاف، بل هو يقوم منذ أيام بتوسيع حربه على الضفة، لتشمل معظم عناصر حرب الإبادة، وأوضحها التدمير الشامل للبنية التحتية، وقد لحظت واشنطن هذه الحرب، والغريب أنها أبدت دعهما لها، في تصريح الخارجية المشار اليه أعلاه، قائلة بأن من حق اسرائيل شن حملة تستهدف المسلحين في الضفة الفلسطينية، لكن عليها الالتزام بالقانون الدولي، ولمزيد من بث الأوهام تضمن تصريح الخارجية تكرار القول الممجوج بأن الاستيطان «لا يتوافق مع القانون الدولي، وقد أوضحنا ذلك للإسرائيليين».
أميركا تتناسى مع كل هذا بأن مواقفها المشابهة لم توقف حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، ولم تلزم نتنياهو بالقانون الدولي، وأن تقول أميركا لإسرائيل بأن الاستيطان لا يتوافق مع القانون الدولي وتواصل استخدام الفيتو في مجلس الأمن لحماية الاستيطان، كل هذه المواقف والأقوال، لا تساوي شيئاً، بل هي تعبر عن سياسة أميركية فاشلة، مضمونها دعم السلوك الفاشي لإسرائيل، مع نشر الكلام المعسول في الهواء.