الأسئلة المعلّقة لهذه الحرب كثيرة، وكبيرة، وما زالت معلّقة وسواء تعلّقت هذه الأسئلة بالذين يرونها مغامرة أقدمت عليها حركة حماس في لحظة من «اختلاط» الحسابات، وتشوّشها، أو الذين يرون فيها مبادرة شجاعة، ومحسوبة بدقّة، وكانت هادفة وقصدية في النتائج التي انتظرتها من هذه المبادرة، فإنّ أحداً لا يمكنه منذ الآن، وقبل أن تضع هذه الحرب أوزارها أن يجزم، أو يحسم القدرة على الإجابة الكافية والشّافية عن أسئلتها المعلّقة على الجانبين.
دعونا أوّلاً نضع إطاراً افتراضياً لرؤية كل جانب حتى يتسنى لنا إيجاد المدخل المناسب لمناقشة عنوان هذه المقالة على عدة حلقات أو مقالات قادمة.
وجهة النظر الأولى ترى في «طوفان الأقصى» مغامرة غير محسوبة، غامرت بها «حماس» بحسابات قاصرة، والبعض يرى في هذه الحسابات، من حيث الدوافع الكامنة، ومن حيث النتائج المستهدفة نوعاً من الحسابات «الضيّقة» وربما الفئوية، أيضاً، وذلك بسبب فشل الحركة في إدارة القطاع، وازدياد النقمة الشعبية ضدّها، وبسبب تحوّل استراتيجيتها من استراتيجية المقاومة إلى استراتيجية الاستئثار بالسلطة على القطاع، بل الدخول في مرحلة معينة في مساومات ما عُرف آنذاك بالتهدئة الطويلة، والتي كانت ستكرّس في كلّ الأحوال استدامة الانقسام، والتحوّل إلى مرحلة أعلى من الانقسام نحو الانفصال، وهو ما يراه البعض هنا بأنّه كان يحقّق الأهداف الإسرائيلية من زاوية تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني سياسياً، ومن زاوية إنهاك الجسد الوطني الفلسطيني كلّه، وهو ما كان يمكن أن يؤدّي ــ بصرف النظر عن أيّ ادّعاءات ــ إلى إحكام الدولة العبرية سيطرتها، واستفرادها بالضفة الغربية، وإلى تهديد وحدة الأرض والشعب والقضية التي تمثّل قاعدة المشروع الوطني كلّه.
وكان هناك من كان يعتبر أنّ «الفصل» كان سيؤدي بصورة معيّنة إلى «حلّ» [المسألة الديمغرافية] لصالح التوجهات الرئيسة للمشروع الصهيوني، ولهذا فقد غامرت «حماس» بحسابات متسرّعة لتغيير الوضع.
على الجانب الآخر يرى أنصار «طوفان الأقصى» أنّ «حماس» قد قامت على مدار سنوات وسنوات ببناء قوة عسكرية ضاربة، وبنت قواتها ومواقعها الرئيسة بصورة محكمة ومخفية عن الأعين الإسرائيلية، وأنّها موّهت من أجل إحداث الصدمة في 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، وتحمّلت كل الانتقادات التي وجهت لها أثناء استنكافها عن المشاركة في الحرب التي شنّتها دولة الاحتلال على حركة الجهاد الإسلامي، بل تحمّلت كل الانتقادات التي اتهمتها بالتعاون مع نتنياهو نفسه، وخصوصاً في مرور الأموال القطرية بوساطة القنوات الإسرائيلية، أو تحت رقابة المؤسسات الأمنية الإسرائيلية، ولم تكترث «حماس» لكل هذه الاتهامات الخطيرة، وتابعت تجهيز كل بنيتها من أجل «طوفان الأقصى».
ويرى هؤلاء أنّ «حماس» منذ «طوفان الأقصى» دخلت في مرحلة جديدة من الانحياز التام للمشروع الوطني بعد أن كانت قد تدخلت بكل قوة في «سيف القدس» تحضيراً لـ»الطوفان»، وتمهيداً له، بكل ما كانت تهدف إليه من ضرب مفاصل أساسية في الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية القائمة على تفوق الجيش الذي لا يُقهر، وعلى قوة الردع الإسرائيلي، وعلى مشاريع الهيمنة على الإقليم.
وعلى عكس ما يراه أصحاب نظرية أو فرضية المغامرة والحسابات المشوّشة فإنّ أنصار «الطوفان» يرون أنّ «حماس» قد أعدّت وجهّزت لـ»الطوفان» وهي مدركة لكلّ نقاط ضعف دولة الاحتلال من أزمات داخلية طاحنة، ومن هشاشة في جبهتها الداخلية، ومن نوايا وممارسات «لحسم الصراع» مستندة إلى حالة عربية مزرية ومستكينة، وإلى تهافت عربي وإسلامي لـ»التطبيع» معها، ومستندة إلى هشاشة الأوضاع الفلسطينية، وحالة الانقسام القائمة، ومستندة كذلك إلى تجاهل القضية الفلسطينية دولياً وإقليمياً، وإلى صعود الفاشية في كيان الاحتلال، وتصوّره ليس للمشهد السياسي فحسب، وإنّما تحكّمه بمفاصل وبنية دولة الاحتلال التي يناط بها التهام الضفة، والانفلات الكامل في مسار تعزيز الاستيطان، والتهويد الكامل للقدس، والسيطرة على المقدسات، وخصوصاً على المسجد الأقصى.
ويرى كلّ هؤلاء أنّ قراءة «حماس» كانت تلحظ ما جرى في التوازنات الدولية من متغيّرات كبيرة، وفي خارطة صعود «الشرق» على حساب موقع وتأثير ودور «الغرب»، ودور الولايات المتحدة على وجه التحديد، وهي الداعم والحامي والراعي لكل سياسات الاحتلال، ولكل توجهات المشروع الصهيوني في إطار الرؤية الأميركية للإقليم، وخصوصية الدور والمكاسب الإسرائيلية الكبيرة التي ستنجم عن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي ستلعب فيه دولة الاحتلال الدور الأمني والاقتصادي الأوّل، والتي ستحافظ من خلاله على الهيمنة الأميركية في كامل الإقليم.
ومن هنا يرى هؤلاء أنّ «حماس» كان عليها، إمّا أن تقبل بالبقاء على رأس السلطة في القطاع، وأن تنسلخ بالكامل عن مقاومة الاحتلال من القطاع أثناء تطبيق «خطة الحسم في الضفة»، وهذا هو الشرط الإسرائيلي الأوّل، وإمّا أنّها ستواجه اجتياحاً للقطاع، لن يتوقف قبل إنهاء حكمها فيه.. وتذكروا هنا ما كان يقوله أفيغدور ليبرمان.
بل يرى هؤلاء أنّ «حماس»، وقد فهمت منذ أكثر من سنة ونصف السنة كلّ هذه التوجهات الإسرائيلية، وأنّ دولة الاحتلال «ناقشت» هذه التفاصيل مع الإدارة الأميركية، وداخل مؤسساتها العسكرية والأمنية، فقد بادرت إلى «الطوفان» لأنّها أصلاً كانت قد حسمت أمرها برفض الشروط الإسرائيلية «للتهدئة»، وأنّها ــ أي «حماس» ــ ستحبط هذا المخطط الذي تحضره دولة الاحتلال لها.
ويرى أنصار «الطوفان» أنّ الحركة قد اتفقت مع «محور المقاومة» على التوجّه، وعلى الاستراتيجية العامة للمواجهة، وعلى الاستهدافات، وعلى ردود الأفعال الأميركية والإسرائيلية على «الطوفان».
وهنا يقرّ بعض أنصار «الطوفان» أنّ الحركة ربما قد تكون قد فوجئت بالانهيار الإسرائيلي الكبير، بما قد يكون هو السبب الرئيس في ردة الفعل الإسرائيلية التي فاقت كلّ التصوّرات!
ويرى هؤلاء أنّ «الطوفان» قد غيّر كل قواعد اللعبة الأميركية في المنطقة، فقد طار مشروع طريق الهند، ودفن مشروع «التطبيع»، وتغيّرت الموازين وأصبحت دولة الاحتلال عاجزة عن الدخول في حروب إقليمية، وتقلّصت قوة ردعها، وتغيّرت صورة جيشها الذي لا «يُقهر»، ودخلت في حرب استنزاف أصبحت تأكل من لحمها الحيّ، وهي الآن بحاجة إلى حماية مباشرة من «الغرب»، بدلاً من أن تكون هي حامية مصالح هذا «الغرب»، وعادت القضية الفلسطينية من غياهب التجاهل لتصبح على رأس جدول العالم، وتغيّرت الرواية والسرديات، ولم تعد دولة الاحتلال لا واحة الديمقراطية، ولا الدولة المظلومة المستهدفة، ولا القوية الكلية القدرة، ولا حتى القادرة على جذب يهود العالم، ولديها هجرة معاكسة وصلت إلى معادلات ومعدّلات مرعبة، إضافة إلى أنّ الحرب تدور داخل كيانها، وبات لديها مئات آلاف المهجّرين.
يرى هؤلاء، أيضاً، أنّ حجم التضحيات هائل وكبير وكارثي من الناحية الإنسانية لكنه ليس بلا ثمن، وليس بلا حصيلة، في حين يرى الاتجاه الأوّل، أنّ هذا الحجم هو بحدّ ذاته يوازي ويساوي، وربما يفوق حجم نكبة فلسطينية جديدة.
سأُتابع في سلسلة مقالات قادمة عنوان «الحرب والأسئلة المعلّقة».