الهجوم على شمال الضفة الغربية، والمرشح للتوسع والتعمق، إنما هو مقدمة لتطبيق الرؤية الأخيرة والنهائية لحكومة نتنياهو الحاخامية التوراتية، وهي رؤية لا وجود فيها للاعتراف بالشعب الفلسطيني أو للجلوس معه على طاولة مفاوضات تفترض الندية والمشاركة والمساواة. أعتقد أن هذا أصبح وراء ظهر الإسرائيلي في عمومه، أعتقد أن الإسرائيلي لم يعد معنياً بحل سياسي بعد كل ما جرى، وما جرى فظيع ولا يمكن أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه أصلاً، لهذا أعتقد أن الإسرائيلي حسم أمره تماماً، بمعنى أنه بصدد فرض التسوية الأمنية على الشعب الفلسطيني، والتعامل معه بقبضة من فولاذ.
وهذا يعني فيما يعني إعادة الاحتلال بكل ما فيه من بشاعة، مع الاستفادة من تجربة الاحتلال الأولى، إذ ستحاول إسرائيل هذه المرة أن تحكم من وراء لجان أو إدارات محلية أو إقليمية أو دولية إن استطاعت، فإن لم تستطع فهي مستعدة لأن تحكم بشكل مباشر أيضاً، أو يمكن لها أن تمارس الدور الأبدي للاحتلال من خلال نظام العصا والجزرة، أو التمييز بين المناطق أو العائلات أو وسائل العقاب والثواب، ومحاولة خلق فئات مستفيدة وأخرى مستبعدة، وإذا أضيف إلى ذلك تحويل المكان إلى مكان ضيق وفقير لا عمل فيه ولا خدمات، فإن الهجرة القسرية ستكون إحدى الحلول، وتبدو إسرائيل مستعدة لكل السيناريوهات الأكثر سوءاً في هذه الصدد.
الحملة العسكرية على الضفة الغربية تهدف فيما تهدف إلى التنكيل بالمجتمع الفلسطيني، وتأخيره وإفقاره ودفعه إلى اليأس والإحباط، وإلى تمزيقه وتجفيف قواه ودوافعه، وتهدف كذلك إلى ضرب التمثيل السياسي والرموز الوطنية.
الحملة العسكرية شمال الضفة الغربية حتى الآن تهدف فيما تهدف أيضاً إلى رغبة إسرائيل في استمرار الحرب بوتائر مختلفة، لأن إسرائيل لم تسترجع بعد ما خسرته بعد السابع من أكتوبر، وقد بررت إسرائيل حملتها هذه بالقول إن إيران تزود المسلحين في الضفة الغربية بالأسلحة عن طريق الأردن، وهو ادعاء تكذبه الوقائع المختلفة، من مصادرة الأسمدة ومداهمة مخارط الحديد، ومن تكرار السرقات من معسكرات الجيش الإسرائيلي، ولكن إسرائيل تريد أن تجعل من حملتها هذه وكأنها استمرار لحربها في الجبهات المختلفة التي تتهم إيران بأنها تقف وراءها. إسرائيل لا تريد أن ترى احتلالها ولا بشاعته، ولا ما يفعل بالإنسان الفلسطيني، إسرائيل تحب لعبة الملامة والعتب والاتهام لكل شيء ما عداها.
فالحملة العسكرية الحالية هذه تريدها إسرائيل منذ اللحظة الأولى لتشكيل هذه الحكومة، اذ أن خطة الحسم التي بلورها سموتريتش جاهزة منذ العام 2017، وقد استطاع هذا الوزير أن يطبق خطته أو على الأقل أجزاء متفرقة منها مثل تعميق الاستيطان، وشرعنته وتغذيته، ومنها دمج المستوطنين المنتمين إلى جماعات خارجة عن القانون في أجسام قانونية معترف بها، ومنها محاصرة السلطة الوطنية ونزع الشرعية عنها أو مطالبتها بالمزيد من التنازلات التي تسميها أمريكا "تحديث" أو "تجديد"، ومنها أيضاً طرد المواطنين من مناطق "ج" وقد بلغ عدد هؤلاء عدة آلاف. هذه الحملة العسكرية الآن تطبق بشكل متدحرج. ما كان يجري في الخفاء أو على استحياء بحيث يكون خطة حكومية علنية تنفذ بآلاف الجنود ومئات الآليات العسكرية، وهي استثمار أمني وسياسي لما جرى في قطاع غزة، فإسرائيل تهدف إلى فصل القطاع عن الضفة فصلاً جغرافياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً أيضاً.
هذه الحملة العسكرية على شمال الضفة الغربية تأتي بعد تدمير قطاع غزة، واستشهاد أكثر من أربعين ألف فلسطيني، وبعد تصويت الكنيست الإسرائيلي على عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وبعد التصويت على أن الأونروا هيئة تدعم الإرهاب وبعد أن استطاعت إسرائيل أن تتغاضى وتهمل كل المطالبات العالمية وكل القرارات الدولية بضرورة وقف إطلاق النار. وهذا يعني أن إسرائيل التي تضرب بعرض الحائط كل شيء تماماً، ماضية في تحطيم كل الأواني، وترفض كل التسويات ومحاربة كل الأطراف حتى حلفائها الذين يظهرون ضعفاً غير مسبوق أمام جنونها وغطرستها. الحملة العسكرية على شمال الضفة الغربية قد تنتهي خلال أيام، ولكنها بالتأكيد رسالة قوية وواضحة بأن إسرائيل غادرت كلياً فكرة التسوية السياسية مع الشعب الفلسطيني، وهو ما ينذر بمخاطر قوية للمنطقة بأسرها.
هذا الهجوم المتدحرج على شمال الضفة إيذان بمرحلة جديدة لا تختلف عن المراحل السابقة سوى بالجنون والغطرسة، وهو ما يثبت أن إسرائيل ماضية في خسارة كل شيء، ولسنا نحن من نقول ذلك فقط. اسرائيل تفقد الاتجاه فعلاً وقولاً.
إسرائيل التي تضرب بعرض الحائط كل شيء تماماً، ماضية في تحطيم كل الأواني، وترفض كل التسويات ومحاربة كل الأطراف حتى حلفائها الذين يظهرون ضعفاً غير مسبوق أمام جنونها وغطرستها.