بين القمة المُنعقدة لمجموعة «بريكس» في مدينة جوهانسبورغ في جنوب إفريقيا، وهي قمّة تاريخيّة، بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، وما بين القمّة القادمة التي ستُعقد في مدينة قازان الروسية في العام القادم، سيكون عالمنا أمام حقائق جديدة، وأوضاع دولية جديدة، لأن عالم اليوم سيكون قد أكمل دورته في خارطة التوازنات الدولية، وستكون الحالة الجيوسياسية للعالم الذي نعرفه، اليوم، حالة مختلفة في مسار الحدّ من الهيمنة «الغربية»، ومن الهيمنة الأميركية، والتحكُّم الأميركي تحديداً بمقدّرات العالم، وبمصير شعوبه.
ما كان لقمة جوهانسبورغ أن تحظى بكلّ هذه الأهمية، وانّ يترقّب العالم بأسره النتائج التي ستخرج بها هذه القمّة لولا أنّ «الغرب» قد بدأ «يجني ثمار» ما اقترفت أياديه في أوكرانيا، عندما وضع خطّته «الإستراتيجية» لتقويض الدولة الروسية، كمرحلة ابتدائية وأولى للإطباق على الصين ومحاصرة تصاعد دورها الاقتصادي، وإجبارها على الانضباط التام للعبة الهيمنة «الغربية» على مقدّرات العالم، وعلى أُحادية هذه الهيمنة.
ولهذا بالذات فإنّ الحرب الروسية الأطلسية التي تدور على الأراضي الأوكرانية هي التي أفضت إلى أن تصبح «قمة بريكس» الحالية والقادمة مفصلاً تاريخياً في تحالفات وتوازنات العالم الجديد على كلّ المستويات.
لم يفهم «الغرب»، وأغلب الظنّ أنّه رفض أن يفهم، بأن محاولات تقويض الدولة الروسية، والتمهيد لمحاصرة المدّ الصيني إنّما ينطوي على واحدة من أخطر مُغامرات العصر، وعلى أكبر خطأ إستراتيجي ــ وهو خطأ من النوع القاتل ــ في كامل تاريخ مسار الهيمنة الاستعمارية لهذا «الغرب».
والأمر كلّه، والسبب الحقيقي هو أنّ «الغرب»، والذي كان يراقب بكلّ مثابرة وخُبث استعادة الدولة الروسية لعافيتها، وخصوصاً بعد دحر جورجيا وإرجاعها إلى الخلف، وبعد السيطرة الفورية على شبه جزيرة القرم، بُعيد الانقلاب الأميركي على النظام الديمقراطي في أوكرانيا، وبعد وضع خطة متكاملة الأهداف والوسائل والمراحل اعتقد هذا «الغرب» أن بالإمكان النجاح في تنفيذ هذه الخطة، اعتماداً على منظومات أُعدّت خصيصاً في أوكرانيا لتشكّل رأس حربة «الغرب» في هذه الخطّة.
استبقت روسيا «الغرب» قبل اكتمال الخطة، وسيطرت من اللحظات الأولى لعمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، ووضعت القوات الأوكرانية في موضع الدفاع، وحوّلت المناطق الجديدة التي دخلتها القوات الروسية إلى الساحة الوحيدة للحرب.
لم يكن أمام «الغرب» آنذاك سوى «التباكي» على الديمقراطية وحقوق الإنسان، وشنّ حرباً إعلامية عن «جرائم» ضدّ الإنسانية، وشنّ حرباً اقتصادية لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري كلّه، وأصيب «الغرب» بنوبات من الجنون والصرع السياسي حتى وصلت به الأمور إلى التراث الثقافي للشعب الروسي.
في تلك الأثناء ــ كما نتذكّر جميعاً ــ ارتفع صوت الحديث عن «إمبريالية غربية» وأخرى «روسية»، وعن أوليغارشية هنا وأخرى هناك، وتباكى الكثيرون على «جريمة» روسيا في إعادة توحيد «الغرب»، وعلى «تكريس» الهيمنة «الغربية» على العالم، ووصلت الأمور بالبعض إلى حدود تصوير ما قامت به روسيا من عملية استباقية لدرء الأخطاء عن أمنها القومي، والتهديدات الوجودية والمصيرية التي كانت تحيط بها من كلّ جانب بأنّها ليست أكثر من محاولة «فاشلة» من الرئيس الروسي لتصدير أزماته الداخلية، ولمنع «انهيار» نظامه السياسي، في ظل «الفشل» الاقتصادي الذي يعاني منه الاقتصاد الروسي، وفي ظل تعثّر الاستقرار السياسي فيها، بل وفي ظلّ «تراجع» كبير في القدرات العسكرية للقوات الروسية.
هل كان بالإمكان أن نتحدّث عن أهمية خاصة، وهل كان بالإمكان أن نشاهد ونراقب معاً هذا الاهتمام بهذه القمّة لولا أنّ «الغرب» قد فشل في خطّته، وأنه، اليوم، يشرع رسمياً بدفع فواتير هذا الفشل؟
هذا كله من ناحية أولى، أما من ناحية ثانية فـ»الغرب» لم يكن إلا مُوحّداً بالرغم من بعض الخلخلات المؤقتة في المرحلة «الديغولية» والاهتزازات في المرحلة «الترامبية»، وهي خلخلات واهتزازات عابرة ومؤقتة، وفي داخل البيت الواحد، وتحت سقف واحد ووحيد وأوحد وهو السقف الأميركي، ليس عندما شنّت روسيا عمليتها العسكرية في أوكرانيا، توحّد «الغرب» وإنّما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى تاريخه، وما زالت ألمانيا بكامل جبروتها وقوّتها شبه مستعمرة أميركية، وما زالت اليابان نفسها تحت الهيمنة الأميركية المباشرة، وكذلك كوريا الجنوبية، ولم تنفصل السياسة الأوروبية عن تلك الأميركية ولا لمرّة واحدة، وأوهام أن «الغرب» كان مفككاً وجاء الرئيس بوتين «ليعيد توحيده» هي أوهام تثير الشفقة أكثر ما تثيره من اهتمام.
بل وحتّى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست» هو إثبات لهيمنة الولايات المتحدة الكاملة على المنظومة «الغربية» كلّها، وعلى تبعية هذه المنظومة للسطوة الأميركية، ويكفي أن نراقب سلوك «الغرب» في كلّ قضية دولية كبيرة لنعرف معادلة الهيمنة والتبعية في المنظومة «الغربية».
على كلّ حال، فإن الفشل «الغربي» بقدر ما أعطى لهذه القمّة من أهمية، وللقمّة القادمة في العام القادم، فإنّ ذلك لا يقلّل من شأن «بريكس» على كلّ المستويات، إلى جانب منظمة «شنغهاي»، وذلك بالنظر إلى حجم مساهمة الدول الأعضاء في الاقتصاد العالمي، وفي التجارة الدولية، وفي الحجم الجغرافي الهائل وفي حجم الثروة البشرية فيها.
عملياً، نحن نتحدث عن اقتصاد خمس دول فقط، وهي الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا.. وهو اقتصاد يتفوّق على اقتصاد «السبع الكبار»، ويتفوّق بما لا يُقاس في كافّة المؤشّرات الأخرى، السكانية والجغرافية، وحتى الثروات المعدنية.
أما إذا أضفنا إلى هذه الدول الخمس بعض الدول الناشئة الكبيرة مثل الأرجنتين والمملكة العربية السعودية وإيران ومصر، ومجموعة أخرى كبيرة، مهمة وقوية ولديها ميّزات اقتصادية وسياسية، ومكانة إقليميّة فإنّ أهمية دول «بريكس» ستتحوّل إلى أهمية استثنائية غير مسبوقة في الظروف الحديثة والمعاصرة على حدّ سواء.
مع الوقائع الجديدة فالمسألة لم تعد مجرّد قدرات اقتصادية، وإنّما تحوّلت عملياً إلى (ملاذ دولي جديد)، وإلى فرصة جديدة لم تتوفّر للبلدان النامية منذ قيام «المعسكر الاشتراكي»، وقادة الدول الخمس تحدثوا بكل وضوح عن إعادة التوازن إلى العلاقات الدولية، ورفض نظام الهيمنة، بل والحديث مباشرة عن عجز منظمة الأمم المتحدة، وعن الغُبن الذي تتعرّض له الدول الفقيرة والنامية، والأهم أنهم أفصحوا بصورة لا تقبل الجدل بأن بنك التنمية التابع لهذه المنظمة سيحلّ بصورةٍ مؤكّدة في مكان البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي كأدوات طيّعة في يد «الغرب» للسيطرة والتحكّم باقتصادات الدول النامية التي تجد نفسها «مضطرة» بالإكراه للخضوع التام لشروطهما الإجرامية.
هذا ناهيكم عن أن قادة «بريكس» أكّدوا على أنّ المعاملات التجارية البينية بالعملات المحلية، وذلك على طريق أن تكون هناك عملة مُوحّدة (فقط للأهداف التجارية) وذلك بهدف أن تتمّ كل التسويات المالية في إطار المنظمة من خلالها، قبل أن تتبلور الأفكار الجديدة حول إزاحة الدولار من طريق أكثر من نصف التجارة الدولية.
أمّا حول النفير «الغربي» فقد صرّح الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، في نفس يوم انعقاد القمّة «بأنه» ينوي «إصلاح» أحوال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وذهب على جناح السرعة ليعيد «تأكيد» وحدة الحال مع اليابان وكوريا الجنوبية.. وحاله في الواقع هو حال كمن يستجير من الرمضاء بالنار.