متابعات: الفرد وليد بيئته ومناخاته ولأنه كما قال ذلك الفيلسوف "أنت لا تنزل النهر مرتين" ففي المرة الثانية تكون المياه قد جرت بعيدًا ومن هنا كان اغتراب الأجيال لأن لكل جيل ظروفه واكتشافاته وآخر ما وصل إليه العلم من معارف أصابته بانبهار اللحظة لكنها أصبحت من عاديات الأشياء القديمة بالنسبة للجيل الذي تلاه وتلك واحدة من أسباب الصراع بين البشر تضاف لغيرها ولم يكن غريبًا أن يجد الأصدقاء فيما بينهم قواسم مشتركة ولغة أقرب من لغة آبائهم فلكل عصر ثقافته.
زمن الخمسينات والستينات والسبعينات كانت مرحلة صراع الأفكار العميقة التي كانت سمة ما بعد الحرب العالمية الثانية وانتقال القتال من الميدان للعقول ومن السلاح للأفكار مهدت لها حربًا باردة غطت الكون وأشغلته لعقود حين انقسمت بين معسكرين الإشتراكي والرأسمالي كان المفكرون هم جنرالات الحرب وكانت الأفكار أساطيلها التي تغيرت أدواتها وكانت الناس تلتقط الأفكار وتقرأها بعمق لتدافع عن هويتها واصطفافاتها وسط الصراع الفكري وكان نموذج مقال الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل "بصراحة" في جريدة الأهرام المصرية يعبر عن هوية تلك المرحلة وكان لدى الناس ما يكفي من الوقت للتأمل وقراءة الكتب على مهل تسلح بها نفسه لمعارك تلك المرحلة.
في تسعينات القرن الماضي ظهرالإنترنت وانفجرت الثورة التكنولوجية وهي ثورة لم تأخذ حقها من الدراسات الإجتماعية بعد، فكان الجيل الذي ولد في الثمانينات والتسعينات ومطلع الألفية وبعدها كان محظوظًا ينمو مع هذه الثورة ومع أدواتها ووسائلها تزامنًا مع انتهاء عصر الحرب بين المعسكرين وأدواتها وهو ما وصفه المفكر الأميركي فرانسيس فوكاياما بنهاية التاريخ أي أن ذلك الجيل كان يكبر مع أدوات وأسلحة العصر الحالي.
من ولد في عقود ما بعد الخمسينات وجد نفسه يكبر في عالم يزدحم بالأفكار العميقة ليس فقط في العالم العربي وسط الإصطفافات بين قومية وليدة تندفع بشغف وإسلامية كانت تستعيد نفسها بخجل بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية واشتراكية ملهمة لدول خرجت للتو من الإستعمار بل على مستوى العالم الذي أنتجت حربه الكبرى فكرتين منتصرتين "الولايات المتحدة بفكرتها "الرأسمالية" والاتحاد السوفيتي بأفكاره الإشتراكية" انفض التحالف بينهما بعد سكوت المدافع وتحول الأصدقاء إلى أعداء وبدأ بينهما صراع العقائد الذي تمدد على مساحة الكرة الأرضية.
هل كان جيل السبعينات أو الذين ولدوا في عقده الأقل حظًا أم الأكثر حظًا بين هؤلاء فهو الجيل التائه وسط جيلين كل منهما كان له عصره وثقافته، ما أن بدأوا بتشكيل هويتهم وشخصيتهم الفكرية كانت تتساقط أمامهم كل الأفكار التي سادت لعقود فقد انهارت البنية العربية إثر اجتياح العراق للكويت وتلاشت الفكرة القومية وعلى المستوى الكوني كان الإتحاد السوفيتي قد بدأ يتفكك مسدلًا الستار على مرحلة تاريخية غنية تشكلت فيها الثقافة العالمية في الستينات والسبعينات من السياسة للمسرح للفنون وكانت الثورة التكنولوجية تخطو خطواتها بانتظار جيل جديد تأخذه من يده بدء من الطفولة.
جيل السبعينات وهو الآن بين منتصف أربعينات وخمسينات سنوات عمره لم يبدأ مع زمن الأفكار ولم يلتحق بزمن التكنولوجيا ليجد نفسه غريبًا بين زمنين ولكل زمن مؤهلاته وثقافته وبنيته الفوقية وما دعا لكتابة المقال أن هذا الجيل التائه هو جيل القيادة الذي يحكم المفاصل الرئيسية للمؤسسات في الدول حاليًا وبعضهم في الصف الأول مثل الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني فهل هذا الإغتراب يكفي لتفسير جزء من ارتباك القرار الدولي وأزماته المستجدة أم أنه امتياز لجيل جمع بين زمنين لحق خيالات زمن الفكرة وبدايات زمن التكنولوجيا ويعتبر الأكثر قدرة على إدارة المجتمعات؟ لا هو ابن الفكر القديم الذي انطوى ولا ابن التكنولوجيا الخالية من الأنسنة وعصر السرعة الذي يتجاوز قواعد المرور وحركة التاريخ على خطوطه المفتوحة أم هل هو همزة وصل الزمنين؟.