- 4 شهداء جراء قصف الاحتلال منزلا لعائلة كحيل في شارع الشهداء بحي الرمال غرب مدينة غزة
نابلس: لم يتجاوز التاسعة عشرة من العمر، لكنه على صغر سنه كان الكابوس الذي لطالما أرق الاحتلال وقض مضاجعه، نشأ منذ طفولته على حس المقاومة حتى بات المطلوب الأول للاحتلال، عرفته شوارع وأزقة وقرى نابلس حين كانت بندقيته تزأر في وجه الاحتلال، مرددا "سيهزم الجمع ويولون الدبر".
كان مطاردا للاحتلال وليس مطاردا، ومشتبكا شرسا حتى يوم استشهاده، ما جعل قصته منارة على طريق الحرية والفداء، إنه البطل الذي قدم أغلى ما يملك دفاعا عن وطنه، الشهيد إبراهيم النابلسي.
ولد إبراهيم النابلسي في مدينة نابلس يوم الثالث عشر من أكتوبر عام ألفين وثلاثة، لأسرة عرفت بنضالها ضد الاحتلال من أجل تحرير فلسطين، والده علاء عزت النابلسي عقيد متقاعد في جهاز الأمن الوقائي وأسير محرر من سجون الاحتلال.
نشأ وكبر في البلدة القديمة بمدينة نابلس رغم بعدها عن منزل عائلته، وبقي الاحتلال يطارده في هذه المنطقة حتى استشهاده.
إبراهيم أو "أبو فتحي" كما يحب أن ينادى تحسس طريق المقاومة منذ نعومة أظافره، والتحق بالعمل المسلح ضمن مجموعات كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح، وتدرج فيها حتى أصبح أحد أصغر قاداتها منذ تأسيسها.
وخلال فترة وجيزة أحرز أهم رتبة في المقاومة بل صار أيقونة لها في مدينة نابلس، فعندما يردد اسمه على الأسماع ينتشر السرور، حتى إنه مرة حضر للمشاركة في حفل زفاف أحد المواطنين فلما تنبه الحضور لوجوده بينهم تركوا العريس والتفوا من حوله وحملوه على أكتافهم.
صاحب الأرواح التسع
منذ مطلع العام ألفين وعشرين شرع الاحتلال في ملاحقة النابلسي وأعلن اسمه كأحد قادة كتائب شهداء الأقصى المطلوبين له، وشن عمليات مختلفة لاغتياله أو اعتقاله.
تعرضت عائلته لمضايقات وتهديدات من قبل الاحتلال لإجباره على تسليم نفسه.
وصفه إعلام الاحتلال ب"صاحب الأرواح التسع" وهي عدد المرات التي نجا فيها من الاغتيال، كانت إحداها هنا في حي المخفية، الواقع في المنطقة الغربية لجبل جرزيم جنوبي مدينة نابلس، ففي يوم الثامن من فبراير ألفين واثنين وعشرين، باغتت قوة إسرائيلية خاصة كان تتخفى في مركبة مدنية، مجموعة شبان كانوا يستقلون سيارة وأطلقت عليهم النار، فنجا النابلسي من محاولة الاغتيال بينما ارتقى رفاقه أدهم مبروكة "الشيشاني" ومحمد الدخيل وأشرف المبسلط.
وخلال تشييع جثمانهم، تحدى النابلسي الاحتلال ومنظومته الأمنية وظهر خلال الجنازة لوداع رفاقه، رافعا سلاحه مؤديا يمين الانتقام لأصدقائه وعيناه قد غرغرت بالدموع.
المطلوب الأول
بعد استشهاد رفاقه، زادت حدة العمليات التي شنها على الاحتلال، فاستهدف أبراجا ونقاطا وحواجز عسكرية في عدد من المواقع المحيطة بمدينة نابلس، منها حواجز حوارة ونقطتا جبل جرزيم وقرية تل العسكريتين.
لكن النقطة المفصلية كانت يوم الثلاثين من يونيو، حين اقتحمت قوات الاحتلال المنطقة الشرقية لمدينة نابلس لتأمين اقتحام المستوطنين لقبر يوسف، وما إن وصلت حافلة المستوطنين حتى باغتهم إبراهيم ورفاقه بصليات مكثفة من الرصاص الحي والعبوات الناسفة، ما أدى إلى إصابة قائد جيش الاحتلال في منطقة نابلس وأربعة مستوطنين آخرين بعضهم في حالة خطرة.
في تلك الليلة عاشت قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين أجواء مرعبة لم يعهدوها منذ قرابة العقدين، وفي أعقاب العملية، جن جنون الاحتلال وتوعد باغتيال النابلسي وسماه المطلوب الاول له في الضفة.
حارة الياسمينة
في الرابع والعشرين من يوليو ألفين واثنين وعشرين كانت مدينة نابلس، شاهدة على ليلة هي الأعنف والأطول منذ عام ألفين واثنين حينما نفذ الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية واسعة بالبلدة القديمة بمدينة نابلس، وكانت حارة "الياسمينة" واحدة من حاراتها الست التي طالها العدوان.
كانت الساعة الثانية فجرا، حين تسللت قوة إسرائيلية خاصة إلى حارة الياسمينة، وحاصرت منزل عائلة العزيزي الذي تتحصن به مجموعة من مقاومي نابلس، الذين أذاقوا المحتل ومستوطنيه صنوف المقاومة أينما حلوا، كان من بينهم إبراهيم النابلسي، ورفيقاه عبود صبح ومحمد العزيزي الشهير بأبو صالح.
نجحت خطة العزيزي في تأمين خروج المقاومين من منزله، وظل برفقة عبود صبح لصد قوات الاحتلال.
في هذه الأثناء شددت قوات الاحتلال من حصارها على محيط المنزل ودفعت بتعزيزات إضافية، وهنا ظهر النابلسي مجددا، حيث نجح بصحبة مقاومين في كسر الحصار المفروض على المنزل.
اشتباكات عنيفة اندلعت طوال ساعات الليل أطلقت خلالها قوات الاحتلال قذائف صاروخية محمولة على الكتف.
عدوان الاحتلال أسفر عن ارتقاء الشهيدين محمد العزيزي وعبود صبح فيما نجا النابلسي مرة أخرى، وعاود الظهور مجددا في جنازة رفاقه لتشييعهم إلى مثواهم.
الاشتباك الأخير
مع ساعات الصباح الأولى ليوم التاسع من أغسطس عام ألفين واثنين وعشرين، تسللت قوات إسرائيلية خاصة إلى حارة الحبلة في البلدة القديمة بمدينة نابلس، وحاصرت منزلا عند مدخل الحي الشمالي، حيث كان يتحصن إبراهيم النابلسي.
على الفور، دفع الاحتلال بتعزيزات كبيرة إلى المكان، واعتلت القناصة أسطح البنايات المحيطة، وبات المنزل معزولا بشكل كامل عن محيطه.
اشتباكات مسلحة عنيفة دارت لعدة ساعات، بين المقاومين المحاصرين وقوات الاحتلال التي استخدمت الذخيرة الحية والقذائف الصاروخية، ما أدى لارتقاء الشهيد إبراهيم النابلسي ورفيقه إسلام صبوح إضافة إلى الطفل حسين طه.
وقبيل استشهاده، نشر إبراهيم مقطعا صوتيا مسجلا، أوصى فيه بالحفاظ على البندقية من بعده.
وداع أسطوري
حظي النابلسي بوداع أسطوري بمشاركة عشرات الآلاف في جنازته بمشاعر مختلطة بين الحزن والفخر، أما والدته فقد أبت إلا أن تقدم لنا نموذجا جديدا في الصبر والثبات، فبعد زغاريدها إثر استشهاده، ظهرت وهى تحمل سلاحه، وحملت على أكتافها جسد نجلها المضرج بالدماء لتوديعه إلى مثواه.
ثبات تلك السيدة الصابرة المؤمنة وهي تنعى فلذة كبدها، مطالبة النساء بتقديم التهاني بنجاح نجلها وبامتياز في نيل شرف الشهادة التي كان يتمناها كل يوم، يعكس البيئة التي ترعرع ونشأ فيها إبراهيم، فلا عجب إذن مما قدمه رغم قصر عمره، فهذه أمه.