في عالمٍ تختلط فيه الأصوات وتضيع الحقائق بين زحام الروايات المتنافسة، يبرز خالد عز الدين كحارسٍ أمين لسردية الأسرى الفلسطينيين، أولئك الذين تُختزل قضيتهم أحيانًا في أرقامٍ جامدة أو أخبار عابرة.
لم يكن خالد مجرد أسيرٍ محررٍ قرر أن يحكي قصته، بل حوّل معاناته الشخصية وخبرته خلف القضبان إلى مشروعٍ إعلامي وسياسي متكامل، جاعلًا من الجزائر منصةً دولية لإسماع صوت من يُريد الاحتلال الإسرائيلي إسكاتهم إلى الأبد.
انطلق عز الدين من قناعةٍ راسخة بأن المعركة مع الاحتلال ليست مسلحةً فحسب، بل هي معركة سردياتٍ تُروى بالكلمة والصورة والعلاقات الاستراتيجية، فاستثمر سنواته في بناء جسورٍ بين زنازين فلسطين ومؤسسات الإعلام الجزائرية، مُحولًا قضية الأسرى من قضية محلية إلى شأنٍ إنساني يمس ضمير العالم.
وُلدت فكرة المشروع الإعلامي لخالد عز الدين من رحم المعاناة، فبعد تحرره من الأسر، أدرك أن قصص الأسرى تموت داخل الزنازين أو تُختزل في بياناتٍ صحفية مكرورة. قرر أن يكون جسرًا بين أولئك الأسرى والرأي العام العربي والدولي، فاختار الجزائر نقطة انطلاق، ليس فقط لرمزية ثورتها التحريرية، بل لقناعته بأن الإعلام الجزائري — بتركيزه على قضايا التحرر — قادرٌ على إعادة إنتاج القضية الفلسطينية ببعدها الإنساني.
لم يكتفِ بنشر المقالات أو المقابلات، بل أسس — بالتعاون مع نادي الأسير الفلسطيني —وبفكرة طيبة من فقيد الإعلام الجزائري عزالدين بوكردوس مدير جريدة الشعب يومها لتكون هذه لحظة تاريخية في ميلاد مشروع مازال ينبض بالحياة إلى اليوم
تلك البداية التي كانت عبارة عن مجلة متخصصة تحمل اسم "ميسرة يرث العالم شهيدًا"، والتي لم تكن مجرد إصدارٍ تأبيني للشهيد ميسرة أبو حمدية، بل تحولت إلى وثيقة إدانة دولية لانتهاكات الاحتلال. ضمّ العدد الخاص مقالاتٍ لكتابٍ وأكاديميين بارزين حللوا القضية الفلسطينية من زوايا مختلفة، بدءًا من الدكتور علي شكشك الذي رأى في استشهاد أبو حمدية نموذجًا للقمع الممنهج ضد الفلسطينيين، مرورًا بالدكتور سامي محمد الأخرس الذي هاجم ازدواجية المعايير الدولية، ووصولًا إلى نصوصٍ كتبها الشهيد نفسه عن تعليم الأسرى وأدب الأطفال، كرسالةٍ مفادها أن السجين الفلسطيني يبني — رغم القيود — مستقبلًا لشعبه.
لم يتوقف دور عز الدين عند حدود الطباعة الورقية، بل وسّع دائرة تأثيره عبر تحالفاتٍ إعلامية ذكية مع صحف جزائرية مثل "المواطن" و"الجريدة الجزائرية"، حيث حوّلها إلى منابرَ دائمة لنشر مقالات الأسرى وتحليلات الخبراء. يقول في إحدى مقابلاته: "الإعلام سلاحنا الناعم، فكل كلمة ننشرها هي رصاصة في جبهة الوعي".
ولم يقتصر عمله على الجانب الإعلامي، بل انخرط في بناء تحالفاتٍ سياسية مع مؤسسات جزائرية رسمية وشعبية، مؤمنًا بأن دعم الجزائر التاريخي للقضية الفلسطينية يجب أن يتحول من خطابٍ شعوري إلى دعمٍ ملموس. فخلال الاستعدادات لإحياء يوم الأسير الفلسطيني في 17 أبريل، خطط لنشر ملحقٍ صحفي ضخم يوثق معاناة الأسرى، لكن التزامن مع الانتخابات الرئاسية الجزائرية عام 2014 كاد أن يُفشل المبادرة، هنا أظهر عز الدين براغماتيةً لافتة، حيث أعاد توجيه الجهود نحو إنتاج فيديوهات توثيقية قصيرة عن حياة الأسرى، ونشرها عبر منصات التواصل الاجتماعي بالتعاون مع نشطاء جزائريين، ليجعل من التحدي فرصةً للإبداع.
يعتمد خالد في استراتيجيته على أمرين: الأول هو توظيف البعد الإنساني للقضية، كقصص الأمهات اللواتي ينتظرن أبنائهن منذ عقود، أو الأطفال الذين وُلدوا وراء القضبان ولم يَعرفوا سوى أسوار السجن.
والثاني هو ربط النضال الفلسطيني بالذاكرة الثورية الجزائرية، كتذكيرٍ دائم بأن تحرير الجزائر — الذي بدا مستحيلًا ذات يوم — كان نتاج إرادة شعبية توحدت تحت مظلة المقاومة. يوضح في حديثٍ له: "نحن لا نروي معاناة الأسرى لنجعل العالم يشفق علينا، بل لنثبت أننا — مثل الجزائريين — قادرون على تحويل الألم إلى مشروع تحرير".
رغم النجاحات التي حققها، يواجه عز الدين تحديًا وجوديًّا يتمثل في تراجع الاهتمام الإعلامي العالمي بالقضية الفلسطينية، خاصةً في ظل التطبيع العربي المتسارع مع إسرائيل. لكنه يعيد تشكيل خطابه ليتجاوز الخطاب التقليدي، مركزًا على قصصٍ تمس المشترك الإنساني، مثل نضال الأسيرات الفلسطينيات، أو الأسرى المرضى الذين يُمنعون من العلاج. ويبدو أنه يدرك أن المعركة الحالية هي معركة وعي، فكما يقول: "الاحتلال يسرق الأرض، لكننا نسرق منه الرواية".
اليوم، وبعد أكثر من عقدٍ على انطلاق مشروعه، يمكن القول إن خالد عز الدين نجح — إلى حدٍ كبير — في كسر حاجز الصمت حول معاناة الأسرى، ليس فقط عبر إقناع العالم بظلم الاحتلال، بل أيضًا بتذكير العرب بأن القضية الفلسطينية ليست شأنًا فلسطينيًّا خالصًا، بل هي قضية كرامةٍ عربية.
ربما لن يُدوِّي اسمه في قوائم الناشطين الدوليين، لكنه — من خلف الكواليس — ينسج خيوط سرديةٍ مقاومةٍ تثبت أن القضية الفلسطينية، رغم كل محاولات التشويه، لا تزال حيةً في الضمير العالمي، بفضل رجالٍ مثل خالد، قرروا أن يحوّلوا صمت الزنازين إلى صرخةٍ تدوي في العالم.