على الأرجح أن تمضي الأسابيع القليلة القادمة دون أن يحدث أمر دراماتيكي بين إسرائيل و»حماس» على جبهة قطاع غزة، بل ودون أن يقع حدث جلل على الجبهات الأخرى، ويعود ذلك لأكثر من سبب يتعلق بواقع الحال داخل إسرائيل التي ما زالت تضع يدها على الزناد، كذلك ارتباطاً بعلاقتها مع الولايات المتحدة، التي دخلت بعد خطاب الاتحاد في الطريق المعتاد للإدارات الأميركية، بعد أن أحدث دونالد ترامب الصخب الذي يعشقه بتصريحاته غير المألوفة، دون أن يجد أي منها طريقه إلى الواقع، وبذلك يمكن القول: إن ما تبقى من شهر رمضان، تضاف إليه مناسبة عيد الفصح اليهودي، سيفرضان حالة الهدوء المشوب بالحذر والترقب.
وإسرائيل باتت محكومة منذ ثلاث سنوات بما يعرفه الجميع بحسابات الائتلاف الحالي، وحرص رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على بقاء الائتلاف، حتى يتجنب هو شخصياً المساءلة القانونية، سواء تلك المرتبطة بقضايا الفساد المرفوعة ضده منذ سنوات، أو تلك المتوقعة ارتباطاً بمسؤوليته عما حدث في السابع من أكتوبر 2023 وما تلاها من تكتيك الحرب، رغم كل المآخذ على قيادته لها، بمواصلتها رغم الفشل الأمني والعسكري، ودون تحديد الأهداف السياسية، ورغم ما رافقها من تضحية ومغامرة بأرواح العديد من المحتجزين الإسرائيليين، وما تضمنته من جرائم حرب جعلته شخصياً مطلوباً للعدالة الدولية كمجرم حرب، ووسمت إسرائيل كدولة مجرمة تمارس حرب الإبادة الجماعية، والعديد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لدرجة أن ذلك بات قناعة يؤمن بها المجتمع الدولي بمعظم دوله وأغلبية شعوبه.
وما يزيد من ترجيح التوقع، بأن يمضي ما تبقى من آذار الحالي دون حدث دراماتيكي، سواء كان العودة للحرب أو حتى متابعة العملية العسكرية، وهو احتمال أكثر ترجيحاً من إنجاز مفاجئ على صعيد متابعة صفقة التبادل، هو أن ما تبقى من هذا الشهر هو ما تبقى من وقت على إسرائيل أن تقر في نهايته كأبعد موعد ميزانيتها السنوية، في ظل خلاف بين أحزاب الائتلاف الحاكم باتت معه حكومة نتنياهو أمام استحقاق صعب، حيث في حال عجزت الحكومة عن إقرار الميزانية حتى آخر الشهر الحالي، فإنه يتوجب على الكنيست أن يحل نفسه تلقائياً، ويتم تحديد موعد مبكر لانتخابات برلمانية، تشير استطلاعات الرأي ومنذ زمن بعيد إلى أن الائتلاف سيخسر فيها، والمشكلة تكمن في أن الأحزاب الدينية تطالب بإقرار قانون إعفاء طلاب المدارس الدينية من الخدمة العسكرية قبل إقرار الميزانية كما كان متفقاً بينها وبين نتنياهو.
والمعروف أن مشروع ذلك القانون أحدث جدلاً وانقساماً إسرائيلياً داخلياً واسعاً، خاصة في ظل الحرب، لأن من شأنه أن يبقي على عدم تجنيد «الحريديم»، ويبدو أن حزبَي شاس ويهوديت هتوراة اللذين يستمدان استقرارهما في الكنيست على عكس أحزاب الائتلاف الأخرى التي تتأثر بالأحداث السياسية، مما يقدمانه من امتيازات لجمهورهما، ومنها الإعفاء من الخدمة العسكرية، وإذا كان نتنياهو قد أدار ظهره لاستطلاعات الرأي وللمعارضة السياسية والجماهيرية طوال فترة الحرب، إلا أنه ظل يسير على الطريق السياسي الذي يبقي على حزبَي التطرف اليميني في الائتلاف، أي حزب العظمة اليهودية بزعامة إيتمار بن غفير، والصهيونية الدينية بزعامة بتسلئيل سموتريتش، فيما لم يهتم حزبا شاس ويهوديت هتوراة بالموقف السياسي، لا من الحرب ولا من غيرها، لكنهما يجعلان مما يمس جمهورهما خطاً أحمر.
يواجه نتنياهو تعقيدات الائتلاف، كذلك استحقاقات العلاقة مع الولايات المتحدة، وهو وصل إلى أقصى ما يمكنه الوصول إليه من الحفاظ على خيوط المعادلة الداخلية بتشابكها مع المعادلة الخارجية، التي تربطه مع واشنطن، ولأسباب عديدة كان منها تهديد ترامب بضرورة التوصل لاتفاقية صفقة التبادل قبل دخوله البيت الأبيض، وافق نتنياهو على صفقة التبادل، بعد أن تلقى الضغط أيضاً من مؤسستَي الجيش والأمن، على خلفية إرهاق الجيش وحياة المحتجزين، مبيتاً النية على الاكتفاء بمرحلتها الأولى، والتي كان التوقيع عليها كافياً لخروج ابن غفير من الحكومة، فيما كان تجاوزها للمرحلة الثانية سيخرج سموتريتش ويفرط عقد الحكومة، وينتهي بنتنياهو شخصياً خارج خشبة المسرح السياسي، إن لم يكن وراء القضبان.
وصحيح أن ائتلاف نتنياهو لم يفقد أغلبيته البرلمانية بخروج بن غفير، وذلك بعد أن تعزز بدخول جدعون ساعر، لكن نتنياهو قد يمارس نفس اللعبة التي مارسها مع اليمين المتطرف مع الحريديم، نقصد تلك اللعبة القائمة على أساس الفصل بين حزبَي شاس ويهوديت هتوراة.
ونتنياهو الذي بدأ حياته السياسية ككاذب ومراوغ، بات خبيراً في إدارة الألاعيب السياسية، وعقد الاتفاقيات تحت الضغط متعدد الاتجاهات، ثم التنصل مما لا يتوافق مع مصلحته السياسية، التي يبدو أن عنوانها الحفاظ على ائتلافه الحاكم الحالي، لهذا بالكاد سمح للمرحلة الأولى بالتنفيذ مع اختراقات متواصلة، كانت تهدف إلى دفع «حماس» لنسف الصفقة، «وتحريره» من تبعات الالتزام بها، خاصة فيما يتعلق بمتابعة المراحل، ولهذا لم يرسل وفده للتفاوض على المرحلة الثانية كما نص الاتفاق، رغم أن بنود المرحلة الأولى كان يجري تنفيذها، وإن مع خروقات وتنغيصات، ومناكفات من الطرفين، وخبرة نتنياهو تقول: إن حرصه على بقاء سموتريتش، وحتى الإبقاء على بن غفير قريباً من الحكومة، يجبره على مواصلة الحديث عن الحرب، وعن التهجير، وتجنب المرحلة الثانية التي تتحدث عن وقف الحرب، بمحاولة تمديد المرحلة الأولى.
و»حماس» تدرك هذا، لذا فإن نتنياهو سيدفع ليس أقل من شهر من وقف إطلاق النار دون مقابل، لأن «حماس» لا يمكنها أن توافق على تمديد المرحلة الأولى مجاناً، والأهم أنها وافقت على مراحل الصفقة لالتقاط الأنفاس ولأنها تضمنت الحديث عن تتابع المراحل، والأهم أن «صخب ترامب» يتبدد مع مرور الوقت، في الوقت الذي لم تقترب فيه خطة التهجير بإسرائيل من تحقيق هدفها السياسي من الحرب، بل العكس هو الذي حدث، نقصد أنها ساهمت بتطوير وتوحيد الموقف العربي، الذي سبق لنا ووصفناه بأنه بات جبهة إسناد سياسي للصمود الفلسطيني، وترامب نفسه يكتفي بالكلام لنتنياهو، ولا يقدم له أكثر مما فعل جو بايدن، كما أنه، نقصد ترامب، يركز جهد إدارته على الملف الروسي/ الأوكراني.
أكثر من كل ذلك فأميركا فتحت جبهات خلاف، إن لم يكن صراعاً، في كل مكان مع كندا والمكسيك، الصين وأوروبا، وهي بذلك ستكون ضعيفة على جبهة الشرق الأوسط، وأوروبا وغيرها ستجد في هذه الجبهة بالتحديد مكاناً مناسباً لمناكفة أميركا، والرد عليها بالمثل السياسي، وحتى ما منّت به إسرائيل نفسها، بأن يفعل ترامب فيما يخص إيران أكثر مما فعل بايدن، يبدو العكس هو الذي على الطريق، نقصد أن مصالحة بوساطة روسية تبدو في الأفق، ولعل فتح واشنطن لنافذة الحوار المباشر مع «حماس» يعني أن جرس الإنذار قد دق على باب نتنياهو.
نتنياهو الذي كان بمثابة فتيل الحرب، أو صاعق الانفجار الذي دوى في الشرق الأوسط منذ أكثر من عام ونصف العام، وما زال يصر على إبقاء الفتيل مشتعلاً، وصولاً لبرميل البارود القابع في طهران، سيظل هو الخطر على أمن واستقرار المنطقة، وعدو السلام فيها، بعد أن أطفأ جذوة أوسلو التي كانت طريق الحل السياسي التاريخي، وأعاد الصراع لمربعه الأول، بل وألبسه الرداء الديني، حيث تكون الحروب الدينية أسوأ وأعنف الحروب على الإطلاق.
سيكون نتنياهو أكثر خطراً كلما اقتربت منه اللحظة التي فشل فيها بنقل بإسرائيل من دولة قرار التقسيم لدولة إسرائيل الكبرى، والخروج من مسار الحرب، والانكفاء داخل حدود التقسيم، وهو في ذروة الحرب، رقص على ذلك الشعار الذي عاش حياته من أجله، وقال: إنه يسعى من وراء الحرب إلى ترتيب الشرق الأوسط بما يحقق هدف إسرائيل الكبرى. وإسرائيل الكبرى هي بكل بساطة دولة تضم كامل أرض فلسطين الانتدابية، مع إضافات جغرافية على حساب دول الجوار، وتوسع أمني بما ترسمه من مناطق أمنية من أرض الغير، إضافة إلى السيطرة على كل الشرق الأوسط من خلال التفوق العسكري.. لأجل كل هذا، ومع مرور الوقت وكما اقتنعت كل دول الشرق الأوسط، بأن استمرار الاحتلال الإسرائيلي مع حكومة اليمين المتطرف هو الذي ما زال يهدد أمن واستقرار الشرق الأوسط، فإن الجميع سيقتنع، قريباً جداً، بأن الخطر يكمن في ائتلاف نتنياهو بالذات، والذي مع بقائه سيبقى خطر الحرب الإقليمية قائماً، ونتنياهو بحساباته الائتلافية يمثل فتيل الحرب وصاعق تفجيرها.