الكوفية:هل هناك ضرورة للتذكير بما حدث ويحدث من تطهير عرقي للشعب الفلسطيني منذ العام 1947؟ هل هناك ضرورة للتذكير بالمجازر التي ارتكبت، وما زالت ترتكب حتى الآن؟
هل من ضرورة أن نعود إلى الجذور.. إلى أمّ النكبات؟
أعتقد أن الحاجة تشتدّ للعودة إلى أصول النكبات المتتالية التي حلّت بالشعب الفلسطيني؛ في خضمّ جريمة الإبادة الجماعية المتواصلة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وجريمة التطهير العرقي والتهجير المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني في القدس، وفي مخيمات الضفة الغربية، التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
كما تشتدّ الحاجة لشحن الذاكرة؛ حين تتردّد عبارات تقارن بين ما يحدث الآن من فظائع ومجازر مرعبة وتطهير عرقي وتهجير بما حدث العام 1948، لتصل إلى نتيجة مفادها أن ما يحدث اليوم هو أكثر إجراماً وأفظع بكثير مما حدث منذ ستة وسبعين عاماً.
نظراً لتطور التكنولوجيا، ووسائل الإعلام، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي بصورة كبيرة؛ عرف العالم بأسره بالصوت والصورة ما حدث ويحدث في قطاع غزة والضفة الغربية، رغم محاولة تشويه الحقائق، وقلبها، وإنكار بعضها، الأمر الذي هزّ ضمير الأحرار عبر العالم.
وسعى العديد من الطلاب والأكاديميين والفنانين والإعلاميين والسياسيين والتربويين والرياضيين والحقوقيين؛ نساءً ورجالاً، لمعرفة الواقع الفلسطيني أكثر فأكثر، ودراسة جذور المسألة الفلسطينية، فلجؤوا إلى كتب «إدوارد سعيد»، و»نور مصالحة»، و»وليد الخالدي»، و»إيلان بابيه»، و»غسان كنفاني»، و»رشيد الخالدي»، وغيرهم/ن، ممن كتبوا حول القضية الفلسطينية في التاريخ والآداب والفنون. تلك الكتابات التي تبيِّن طبيعة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لأرض فلسطين منذ العام 1948، كما تبيِّن تفاصيل التغيير الجذري الذي حدث على حياة الفلسطينيين، منذ بدأ التطهير العرقي للشعب الفلسطيني في آذار 1947، وحتى بدايات العام 1949؛ حيث طرد وهجِّر نصف الفلسطينيين أو أكثر من أراضيهم، دون أن تسمع أصواتهم/ن.
أما «قطاع غزة» كما عرفه العالم، فلم يكن موجوداً قبل العام 1948. كان هناك «لواء غزة» - الذي «كان يشتمل على ثلاث مدن: غزة والمجدل وخان يونس، و54 قرية - اغتصب الصهاينة منه مدينة المجدل و45 قرية دمّرت جميعها تدميراً كاملاً، وأزيلت معالمها.» وبعد العام 1948 لجأ إلى قضاء غزة أكثر من ضعفَي سكانه؛ لأنه استقبل حوالى 200 ألف مهجّر ومهجّرة، بينما كان عدد سكانه قبل 1948 حوالى 80 ألف نسمة».
بينما عرفت مجزرة دير ياسين المروّعة في التاريخ الفلسطيني، والتي كان لها أكبر الأثر على تهجير الفلسطينيين العام 1948، بقي العديد من المجازر التي حدثت في العام ذاته، وفي الأعوام التالية؛ مخفياً ومسكوتاً عنه، حتى كشف عن بعضها لاحقاً، عبر البحث في الأرشيفات الصهيونية، وعبر التاريخ الشفوي، كما حدث في الكشف عن مذبحة الطنطورة، التي روى تفاصيلها من نجوا منها، بعد حدوثها مباشرة، ثم العام 1998، حين كشف عنها وعن جرائم الحرب التي قامت بها قوات من عصابات «الهاغاناه» في القرية، عبر الباحث الإسرائيلي «تيودور كاتس»، الذي اعتمد في بحثه الأكاديمي على وثائق إسرائيلية سرية رسمية، وشهادات صوتية لشهود عيان من فلسطينيين شهدوا المجزرة، ومن جنود إسرائيليين ساهموا في ارتكابها.
كشفت أبحاث التاريخ الشفوي، التي أجرتها مؤسسات بحثية وباحثون/ات، على لسان المهجّرات والمهجّرين العام 1948، عن مجازر طمست معالمها، ولم يذكر بعضها ضمن مراجع تاريخية مكتوبة، سوى بعد عشرات السنوات من وقوعها، منها مجزرة قرية اللجّون، التي ارتكبت العام 1948، وراح ضحيتها حدّ الخمسين من كبار السن، حرقوا أحياء، بعد أن تم نقلهم/ن من طيرة حيفا - التي هجّر كل من فيها، وبقي كبار السن والعجزة - إلى شرق قرية اللجّون (شمال شرقي جنين): «نقلوهم من طيرة حيفا، وحطّوهم بين القمح، داروا النار بالقمح وبالعجز. عمتي منهم، اللي حاول يهرب رموه بالنار»، أما قرية اللجّون فقد طهِّرت عرقياً بالكامل، في 30 أيار 1948.
ومنها مجزرة دير البلح (وسط قطاع غزة)، حين ذبح أفراد عائلات بأكملها العام 1948 «ثالث يوم، رابع يوم، ذبحوا دير ياسين»، واستشهد يومها مئات الفلسطينيين «يمكن مش أقل من 500 جنازة طلعت مرّة وحدة».
كما كشفت أبحاث التاريخ الشفوي عن مجزرة مروّعة، هي مذبحة أولاد الحاجة بهجة، في تموز 1948.
آمنت الحاجة بهجة أبو عيسى، من طيرة حيفا، بوجوب التضحية بأعزّ ما لديها في سبيل الوطن، وتغنّت باستعدادها لتقديم أولادها قرباناً لتحرّره؛ لكنها لم تستطع تحمل رؤية أولادها الخمسة يذبحون واحداً تلو الآخر أمامها. كان يمكن لها أن تتحمل استشهادهم في المعارك، أثناء دفاعهم عن الوطن، لكن موتهم ذبحاً على ركبتها؛ كان فوق احتمالها واحتمال البشر بل الحجر. جُنّت الحاجة بهجة، وماتت بعد فترة وجيزة، كما شهدت ابنة بلدها «لطيفة درباس»: «قالّها: تعالي إفدي الوطن! صاروا يجيبوا واحد واحد يذبحوه على ركبتها. طلعت محمحمة بالدم. الحاجة اختلّ عقلها انجنّت! ما طوّلتش ماتت».
هو تطهير عرقي مستمرّ، ونكبة مستمرّة.. هو المخطط ذاته الذي بدأ منذ ستة وسبعين عاماً، والذي يهدف إلى تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، بالطرد والترحيل المباشر حيناً، وبخلق ظروف غير آدمية تدفع العديد إلى النزوح حيناً.
وضمن هذا السياق، يمكن فهم الإبادة الجماعية التي تشنها دولة الاحتلال الاستعماري على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وهدم البيوت في القدس وتهجير أهلها، واجتياح مخيمات الضفة الغربية.
وإذا كان المحتلون قد استطاعوا ليّ عنق الحقائق زمناً طويلاً؛ إلّا أن صوت أصحاب الحق علا وسوف يتصاعد علوّه، حتى يشق عنان السماء؛ ليطالب بمحاسبة المحتلين المستعمرين على جرائمهم، وعلى انتهاكاتهم المتواصلة للقانون الدولي، ويطالب بالاستقلال والعودة وتقرير المصير.
هذا هو الحق الأصيل للشعب الفلسطيني، وهذه هي العدالة، التي لن يقبل الفلسطينيون بديلاً لها.