في هذه المقالة، سنحاول أن نناقش الأطروحة المركزية والأهم في وجهة نظر الفريق الذي «يجزم» بأن «طوفان الأقصى» كان «مغامرة» على أعلى درجات الخطورة من زاوية الخسائر الفادحة في قطاع غزّة، سواء تعلّق الأمر بالخسائر البشرية التي فاقت كل التصورات والحدود، أو سواء تعلّق هذا الأمر بالتدمير الذي لحق بالقطاع في كل الاتجاهات والقطاعات، بحيث بات منطقة منكوبة ومدمّرة، وطارداً للبقاء والصمود، ويمهّد «موضوعياً» لهجرة مرتقبة ستحقق لدولة الاحتلال الهدف الاستراتيجي الأهم في كامل مخططاته وهو هجرة مئات آلاف الغزيين، إن لم نقل الملايين، وهو الأمر الذي في ظل انعدام فرص العيش فيه بعد تدمير البنى الصحية والتعليمية والمساكن والمؤسسات والمرافق سيتحول إلى نكبة جديدة ستلقي بظلالها الثقيلة على مجمل حقوق وأهداف الشعب الفلسطيني، وستؤدي عند درجة معيّنة من «نجاح» هذا المخطط إلى انتقال للخطة الإسرائيلية إلى الضفة الغربية، بل ولن يكون بعيداً اليوم الذي سيتم فيه الانتقال بشتى السبل والوسائل إلى تهجير فلسطينيي الداخل، والإجهاز على أسس ومرتكزات كامل مقومات المشروع الوطني، وصولا إلى تهديد وجود الشعب الفلسطيني كلّه.
وفي محصلة هذا الرأي فإنّ أصحاب نظرية «المغامرة» التي أقدمت عليها حركة حماس حازمون وحاسمون حول هذه المحصلة، دون أن نغفل أو نتغافل عن البعض منهم، والذين لا يرون الوصول إليها ــ أي المحصلة ــ أمراً سهلاً، أو بلا عقبات، أو أن الطريق الإسرائيلي للوصول إليها ممهّد ولم يتبقّ سوى زمن الاستكمال التام. من هنا، ومن على هذه القاعدة سنبدأ المناقشة.
إذا أمعنّا النظر في جوهر، وفي مجمل هذه الأطروحة، وبقدر ما تتطلّب المناقشة درجة عالية من الموضوعية، ومن قيمة البحث عن الحقيقة فإنّ أطروحة على هذه الدرجة من أهمية وخطورة المحصلة تحتاج من أصحابها الإقرار الذي لا لبس فيه بأنّ مخططات المشروع الصهيوني، في التدمير والإبادة والتهجير المباشر، أو غير المباشر كانت «مجمّدة» إلى حد بعيد، وأن «الطوفان» هو الذي أعطى لدولة الاحتلال فرصة إعادة تنفيذ هذا المخطط ومهّد أمامها الطريق واسعاً لوضعه على جدول الأعمال المباشر.
كما يجدر بهذا الفريق بكلّ تلاوينه الإقرار، أيضاً، أنّه لولا «الطوفان» لسارت الأمور باتجاه الإبقاء على القطاع محاصراً، وجائعاً إلى أجل غير مسمّى، ومنفصلاً عن الجسد الوطني، وأنّ أقصى ما يمكن «الوصول» إليه في المدى المنظور كان بعض التسهيلات المعروفة لدينا جميعاً، من تشغيل عدة آلاف من العمال، ومن توسيع دائرة الصيد البحري والتخفيف من بعض المظاهر الصارخة من الحصار مقابل أشكال معلنة أو غير معلنة من التهدئة، مؤقتاً كانت أو طويلة، باتفاق أو بغيره.
كما أنّ فريق وأصحاب نظرية «المغامرة» لا يستطيعون التنصّل من الإقرار بأنّ كل شيء على كامل هذا الصعيد كان يحتاج «الالتزام» بألا يعود السلاح الذي هو في يد فصائل المقاومة الفلسطينية «قادراً» على أن يشكّل أيّ نوع من التهديد لدولة الاحتلال تحت طائلة تدميره في أيّ وقت، وتحت طائلة التهديد بالذهاب إلى حرب، وحروب متواصلة لضبطه في هذه الحدود، كما فعلت دولة الاحتلال عندما شنّت خمس حروب متتالية تحت هذا العنوان بالذات.
أقصد، لا يستقيم النقاش مطلقاً دون مثل هذه الإقرارات، لأنّ من يعتقد أنّ تدمير القطاع وبنيته، وقتل وتجويع المدنيين الفلسطينيين، وحرمانهم من الدواء، والعلاج والسفر، والإمعان في تحويل حياتهم في أكبر سجن عرفته البشرية المعاصرة كلّها إلى جحيم هو نتاج لـ«الطوفان» إنما هو مضلَّل ومضلِّل، وهو مخادع ومخدوع، وهو واهم وموهوم في آنٍ معاً، وهو واقع سابق على «الطوفان».
ومن يعتقد من أصحاب نظرية «المغامرة» أنّ ما قامت به دولة الاحتلال من إجرام وقتل متعمّد، ومن تدمير ممنهج لكل البنى والمرافق، وما أقدمت عليه من تهجير داخلي، وهو مجرد مرحلة من مراحل خطة دولة الاحتلال على طريق التطهير العرقي الشامل للقطاع هو ردة فعل فهو كذلك ليس أكثر من ساذج، وليس سوى ضحية من ضحايا حرب الإبادة، ضحية سياسية وثقافية من نوع خاص.
لو كانت دولة الاحتلال في حرب الإبادة والتدمير تهدف إلى استئصال «حماس»، وباقي فصائل المقاومة، أو إلى إزالة التهديد الذي تمثّله» أو إلى «خلق بديل، سياسي يقبل بإدارة القطاع بعد الاستئصال وإزالة التهديد لما قامت بكل هذا التدمير وهذا الإجرام.
الذي قامت به دولة الاحتلال هو إبادة ضد الشعب الفلسطيني كلّه، وفصول هذه الإبادة تتوالى وتتالى في الضفة، وقريباً ستنتقل إلى الداخل الفلسطيني، ولو كانت الأهداف الإسرائيلية هي «القضاء» على المقاومة فإنّ أهمّ «وأذكى» خطوات كان يمكن أن تفعلها هو التركيز على الأهداف العسكرية، والأهداف العسكرية كما ثبت لكل من يراقب ويتابع ويتتبع هي تحت الأرض وليس فوقها، ولم يثبت أن قوى المقاومة الضاربة والرئيسة كانت أو ما زالت في المدارس والمستشفيات أو الجامعات، أو في الأحياء السكنية أو في المرافق، وقد ثبت بما لا يدع للكثير من الشك أنّ هذا التدمير لم تكن له صلة حقيقية بقدرات ومقدّرات المقاومة في القطاع.
وحتى لو أنّ مثل هذه الصلة كانت موجودة وقائمة هنا وهناك، إلى هذه الدرجة أو تلك، بهذا القدر أو ذاك فهل كان سيكون هذا القدر الهائل من الإجرام والإبادة الجماعية، وكيف لهذا القدر الهائل والهمجي أن «يؤدّي» إلى استئصال «حماس» وإزالة ما تمثّله من تهديد، وإلى «خلق» بديل سياسي عنها في ظلّ تقتيل جماعي كهذا، وتدمير منهجي شامل؟
على العكس من ذلك كله، فقد كانت دولة الاحتلال ــ لو أرادت ــ أن تركّز على البنى العسكرية، وأن تتجنّب قتل المدنيين، والابتعاد ما أمكن عن تدمير البنى المدنية ومرافق الخدمات من أجل الوصول إلى النتائج التي حدّدتها كأهداف للحرب على القطاع لأمكنها ذلك، وكانت قادرة عليه، وربما كانت ستحقق نتائج أفضل.
دولة الاحتلال فعلت كل ما يتناقض بشكل صارخ مع هذه الأهداف، واختارت الإبادة والقتل الجماعي، والتدمير الشامل حتى لا تكون مرغمة على خوض معركة عسكرية، وحتى يكون الوجه الرئيسي للحرب كلها ليس المواجهة العسكرية، وإنّما تدمير كل شيء تحت غطاء الأهداف العسكرية.
ولجأت الدولة العبرية إلى قطع الماء والكهرباء ومنع المساعدات، وتجويع أهل القطاع كأداة رئيسة في هذه الحرب الإجرامية، وكبديل عن الحرب العسكرية، وهي بهذا المعنى مارست أكبر عملية إرهاب عرفتها البشرية الحديثة حين حاولت أن تهجّر أكثر من مليوني فلسطيني إلى خارج حدود القطاع تحت ضربات الطيران الحربي العدواني وبقنابل عملاقة ضدّ مخيمات ومساكن مدنية، وحين فشلت تابعت هذا القتل وأجبرت أكثر من ثلثي سكان القطاع على النزوح مرةً تلو الأخرى داخله علّها تحقق النتائج «المرجوّة» من هذه الهمجية.
فهل قامت دولة الاحتلال بكل هذا فعلاً كرد على «الطوفان»؟
سأطرح الآن الأسئلة التالية لتوضيح ماهيّة المشكلة هنا:
هل كانت القضية الوطنية بألف خير قبل «الطوفان»، وإنّ بعض «المشكلات» كان يمكن الاستمرار بالتعايش معها، بما في ذلك الأوضاع في القطاع، وجاء «الطوفان» لكي يعطي لدولة الاحتلال المبرّر والفرصة؟
أعتقد أنّ أصحاب نظرية «المغامرة» لا يدّعون ذلك، ولا يوافقون عليه.
السؤال الذي يليه، إذا كانت دولة الاحتلال قد اشترطت الالتزام بعدم استخدام السلاح ضدها لكي «توافق» على إبقاء الحصار على كامل القطاع، وأنّ عليه أن يكون مفصولاً عن الضفة، وأن يبقى كذلك إلى أن تقرّر دولة الاحتلال مصيره في المستقبل، وأن يكتفي القطاع بإجراءات تخفيفية هنا وهناك تحت شعار «الأمن مقابل الخبز».. إذا كان هذا بالضبط ما كانت تطرحه الدولة العبرية، فهل كان مطلوباً من فصائل المقاومة أن تتعايش مع هذا الواقع أم تتمرّد عليه؟ وما هو مبرّر وجود سلاحها إذا كان هذا السلاح هو من أجل البقاء تحت سيطرة ومخططات دولة الاحتلال؟
أو، ألم يكن عند درجة معيّنة على هذه الفصائل إمّا أن تقبل بهذا الواقع أو تتمرّد عليه؟ وما هي بالضبط هذه الدرجة؟
هنا سنكتشف، ونحاول أن نكشف مدى تداعي وهزالة نظرية «المغامرة» التي يردّدها أصحابها وهم على درجة تبدو كبيرة من الثقة بصحتها، وبعمق انشدادها للمصالح الوطنية، والخوف على هذه المصالح؟
ليس لـ«الطوفان» علاقة جوهرية بنظرية «المغامرة» من قريبٍ أو بعيد، والمسألة برمّتها لم تحسب مطلقاً من زاوية ردود الأفعال الإسرائيلية، أي بمعنى حجم ردّة الفعل والتدمير، لأن «الطوفان» كان يهدف إلى قلب الطاولة في كامل المنطقة والإقليم بالرغم من معرفة القائمين عليه أنّ ردّة الفعل الإسرائيلية ستكون مدمّرة وشاملة، وخصوصاً ردّة الفعل الأوّلية، وأنّ ردّة الفعل هذه مع احتدام المعارك ستكون وبالاً عليه، وستؤسّس لحالة مقابلة من ردود الأفعال على مستوى الشارع العربي، وقوى الحرية في العالم، وعلى مستوى فتح جبهات جديدة ضد الدولة الصهيونية بما يجعل من «الطوفان» وبما يحوّله إلى نقطة تحوّل استراتيجية في مواجهة المخططات الصهيونية و«الغربية»، وبما يخلق من حقائق جديدة ووقائع جديدة تحبط مخطّط تصفية القضية الوطنية التي كانت قد بدأت مسارها التطبيقي المباشر في الضفة وليس في القطاع.
أي أنّ «الطوفان» لم يكن بأيّ حالٍ حالة «تمرّد» على أوضاع القطاع، وهو بالأساس قد جاء في ضوء برنامج «اليمين» المعلن حول التصفية الكاملة للقضية الفلسطينية، وقد جاء في ضوء «خرائط نتنياهو»، وإعلانات سموتريتش في وثائق رسمية، معلنة، وتم تقديمها إلى وسائل الإعلام الإسرائيلية، وفي ضوء الدور الذي أُنيط به في حكومة نتنياهو، وفي ضوء تسلُّمه لوزارة المالية، وكوزير في وزارة الدفاع، وبعد أن تمّ تسليم بن غفير الضلع الآخر لعملية التهام واستيطان الضفة، وبعد أن وافقت الولايات المتحدة على الدور الإقليمي لدولة الاحتلال بعد موجات «التطبيع»، وانخرطت الدول العربية في مشروع طريق الهند، وبعد أن تمّ ترتيب الإقليم من على هذا الأساس، وعلى أساس تجاوز وتصفية القضية الوطنية.
في المقالة القادمة سنتعرّض لتفاصيل الرؤى التي حكمت «المغامرة» المزعومة.