التاريخ أبرز مدارس فهم السياسة ومفاتيحها وتحليلها أيضاً، ببساطة لأن التجربة الإنسانية تجسدت بين البشر الذين تجمعهم سمات اجتماعية ونفسية تتمايز بالتفاصيل لكنها تتشابه بالعموم، كانت كل معاركه لا تنتج سوى الدم والدموع كما قال ونستون تشرشل ذات يوم.
ولأن التاريخ هو المعمل الهائل لتلك التجربة الإنسانية، كان على السياسيين قراءته جيداً أو على الأقل الاحتفاظ بمستشارين قادرين على اشتقاق خصوصية اللحظة من عمومية التجربة التي امتدت على مساحة عقود وقرون.
كان هناك مغامرون عبر التاريخ أطاحوا بدولهم وتسببوا بالخراب لشعوبهم ليس إلا بسبب خطأ الحسابات، ومغامرات تقف خلفها قرارات عقول تهورت أو خُيّل لها شيء في لحظة ما سواء بسبب انعدام الكفاءة أو محدودية الذكاء أو سوء الحسابات فكانت النتائج الكارثية التي تركت ندوباً على جسد البشرية.
توقف الكاتب الكبير المرحوم محمد حسنين هيكل أمام ظاهرة لافتة وهو يقدم قراءات هادئة لتاريخ المنطقة والعالم في القرن الأخير المليء بالأحداث والحروب والمغامرات وزلازل السياسة، ظاهرة عندما يتقدم السلاح على السياسة معتبراً أن اللحظة التي يحدث فيها ذلك تشكل خطراً على المجتمعات لأن السلاح لا يملك الرؤية الإستراتيجية، يقاتل ولكن لا يحسب ولا يستثمر ولا يعرف كيف يتوقف وهذا دور السياسيين ومنطق الأشياء أن يخضع السلاح للسياسة لا العكس.
حدث مرة عندما غامر أدولف هتلر وسبق السلاح السياسة واجتاح إقليم السوديت في غرب تشيكيا بحجة أن سكان الإقليم ألمان يتحدثون اللغة الألمانية بعد مفاوضات مخادعة مع رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلن، دون أن يدرك مستشار ألمانيا أن هذه ستفتح عليه أبواب جهنم فقد دفعه غرور القوة لتلك الخطوة التي تسببت بقتله وتدمير بلاده لأنه لم يحسب أن كل أوروبا والأساطيل الأميركية ستجيء من بعيد ولن تقبل بأقل من إزالة حكمه مهما كلف الثمن وترك ألمانيا خراباً.
صدام حسين الزعيم العربي المحبوب خانته الحسابات كذلك ولم يدرك فداحة اجتياح دولة مثل الكويت، فسبق السلاح السياسة ولم يجرِ ما يكفي من الحسابات الإقليمية والدولية وأن هناك من يتربص به، وأن العالم سيتكتل لإخراجه منها وملاحقته وتحطيم دولته وشعبه والقضاء عليه إلى أن انتهى الأمر بإعدامه وإسقاط حكمه نتاج مغامرته أو اندفاعه المغامر الذي كلف العراق نهايته كدولة إقليمية يحسب لها ألف حساب وهي تجلس على ما يكفي من ممكنات القوة العسكرية والاقتصادية والعلمية، صحيح أن ذلك البلد كان محل استهداف لكن دون ذريعة الكويت المغامرة لم يكن يحدث كل هذا، وها هي العراق تقبع في أعلى سلم الدول الأكثر فقراً وفساداً وفوضى تتقاذفها دول عدة.
تجارب التاريخ ومغامراته كثيرة بعضها كان يقف خلفها قلة الذكاء وانعدام الحسابات أو جنون العظمة لكن النتائج كانت دوماً كارثية. فالسياسة والسلاح بحاجة دوما لحساب خطواتهما بميزان بائع الذهب ومن الخطر الشديد ترك الأمر للأهواء أو أنصاف الأذكياء الذين يجرون الويلات على شعوبهم وخاصة حين لم يمتلكوا القوة الكاسحة التي تردع الخصوم من الاقتراب كما تفعل الولايات المتحدة، فالسياسة أولاً وأخيراً هي الانعكاس الطبيعي لموازين القوى على الأرض ونتائج المعارك دوماً تقررها توازنات الميادين، فمن يملك قوة كاسحة يفعل ما يشاء لكن من لا يملك عليه أن يحسب ويحسب بعقل بارد.
دُمرت ألمانيا ووصل الحلفاء إلى عش النسر مخدع هتلر الذي كان يختبئ فيه مع إيفا براون الحبيبة التي لم يتخل عنها في آخر لحظاته، ثم أصبحت ألمانيا تابعة للحلفاء مقسمة تم تصميم نظامها بحيث تظل ضعيفة لا ترفع رأسها سياسياً وعسكرياً بقواعد أميركية دائمة ، تلك كانت النتيجة.
دمرت العراق ووصل الأميركي إلى مكان الزعيم العراقي صدام وهو في وضع بائس بعد أن كان الزعيم الذي يهز أركان الجامعة العربية وتحسب له الدوائر الغربية ألف حساب لتصبح العراق دولة طائفية متخلفة محل تجاذبات ونفوذ دول إقليمية ودولية لتبدو في لحظة أنها لم تعد للعراقيين.
تلك دروس تاريخية. والسؤال ماذا لو لم يقم صدام وهتلر بمغامراتهما ماذا لو لم يجتَح العراق الكويت وتصرف زعيمها بذكاء ؟ ماذا لو لم يجتَح هتلر السوديت وتصرف بذكاء ؟ ماذا لو تواضع كلاهما ونظرا بأفق أوسع للتكتلات الدولية ومصالحها وقوتها العسكرية مجتمعة ؟ ربما أعفيا شعبيهما وحزبيهما ودولتيهما من التحطم والدم والدموع.
والسؤال الآخر ماذا لو قام هتلر وصدام بعد المغامرات بالتنحي وتقديم استقالتيهما بعد إدراكهما لفداحة الخطأ ؟ وماذا لو استسلما منذ البداية قبل أن يتم تدمير الدولتين وحروب يزجون فيها الجنود في أتون معارك تحكم موازين قوتها بالهزيمة ؟ ماذا لو أعفيا الجنود الذين عادوا محملين بالتوابيت قبل الموت بلا انتصار ؟ التاريخ بحاجة إلى قراءات من زوايا أخرى تعطي ما يكفي من الدروس لمن يريد ممارسة السياسة بحدها الأدنى، فالشعوب أمانة يجب عدم التلاعب بها وهناك ما يكفي من العِبَر قبل أن يتكلل التاريخ بالعبرات .. أو العثرات الفادحة.