- طائرات الكواد كابتر تطلق النار في محيط مقبرة القسام بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة
قلنا في المقال السابق إن إسرائيل بعد مضيّ ما يقارب الـ 9 أشهر من الحرب على قطاع غزّة، وما تلازم معها من معارك على طول الحدود الجنوبيّة للبنان تسعى إلى «خفض» وتيرة الحرب في القطاع، وانتظار أن يؤدّي ذلك إلى خفضٍ موازٍ في جنوب لبنان، لكي يتم توجيه الحرب الجديدة إلى الضفة الغربية.
وشرحنا بما يكفي من التفصيل كيف أن بنيامين نتنياهو يهدف من خلال ما تسميه الولايات المتحدة بالمرحلة الثالثة، وهي تسمية أميركية «وافق» عليها نتنياهو بعد أن كادت القوات الإسرائيلية الغازية «تنهي» اجتياح رفح، وذلك بهدف تجنّب «الاستنزاف» لهذه القوات من جهة، وبهدف الاستمرار بالحرب بوسائل جديدة «بحثاً» عن الأسرى الإسرائيليين، واستمراراً باستنزاف المقاومة الفلسطينية، وملاحقة لقياداتها، مع الإبقاء على هذه القوات في محوري «فيلادلفيا» و«نيتساريم» بهدف «ضمان» السيطرة العسكرية على القطاع، والتحكّم بدخول المساعدات، وفرض الصيغة السياسية والإدارية التي تحقق الأهداف الإسرائيلية، أملاً في أن يؤدّي كل ذلك إلى خفض معركة الشمال، وتجنّب الذهاب إلى حرب طاحنة وشاملة هناك، لكي يُعاد «ترميم» الحالة الداخلية في إسرائيل، وتفكيك «المعارضة» الإسرائيلية، والعمل على ترميم الصورة الإسرائيلية في العالم، وفي الإقليم من موقع استمرار الحكم والتحكّم بالسلطة السياسية من قبل «الائتلاف الفاشي» إلى أن «تنضج» الحالة الجماهيرية في الدولة العبرية، وتصل إلى انتخابات مبكّرة «مواتية» من وجهة نظر هذا الائتلاف، أو الاستمرار على هذا المنوال حتى نهاية الفترة «القانونية» لهذا الائتلاف.
وتبدو الحرب الجديدة على الضفة في هذا الإطار هي «الآلية» الوحيدة التي تؤمّن لهذا الائتلاف الاستمرار بالحرب بدعمٍ كامل من القاعدة «الشعبية» لـ «اليمين» الحاكم، وبمعارضةٍ تكاد لا تذكر من قبل «المعارضة»، كما أنّ هذه الحرب هي حرب سهلة بالمقارنة مع الحرب الدموية في غزّة، وفي جنوب لبنان، وهي الحرب التي «ستؤمّن» آليات للقضم والضمّ الزّاحف، وهي «الأداة» الأكثر فعالية من وجهة نظر نتنياهو وأعوانه لتحويل الاستيطان إلى «طوفان» مقابل، وبحيث سيتحوّل الصراع في الضفة إلى «حرب أهلية» بين مستوطنين وبين سكّان مدنيين فلسطينيين، يقوم الجيش «بفضّ» الاشتباكات فيما بينهم، وبذلك يتحوّل الصراع إلى صراع ليس بين احتلال وشعب تحت الاحتلال، وإنّما إلى اقتتال داخلي، مدني بين «مواطنين» يهود، ومواطنين فلسطينيين لكي يصار إلى البحث عن حلول سياسية من شأنها أن تفكّ الاشتباك بين «الأهالي» من الجهتين، بعد أن تضمن دولة الاحتلال السيطرة الكاملة على الأرض والموارد، وتسليمها إلى «الأهالي» اليهود رويداً رويداً بعد أن تصادرها لمصلحة «الدولة»، لكي تغدقها على «الأهالي» اليهود، في ظروف من العنف والقتل والتهجير، وتحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم.
لا تحتاج إسرائيل بموجب كل ذلك إلى «الضمّ» الرسمي، وليست بحاجة إلى التصادم مع «المجتمع الدولي» في هذا الشأن، وسيتحوّل الحل السياسي المنشود في الضفة، ومن دون أيّ علاقة، من أيّ نوعٍ كان مع القدس، ومع قطاع غزّة إلى إعادة تقسيم الضفة، وإعادة هيكلة الطرق والمعابر والممرّات بحيث يُحشر الفلسطينيون على أقل من 30% من مساحة الضفة، وبشروط عنصرية ستعجز المعاجم السياسية على إيجاد وصف حقيقي لها.
أُنوّه هنا الى أن هذه الآراء حول الرؤية الإسرائيلية، وحول مخططاتها على هذا الصعيد ليست جديدة، وإنني سبق وأن طرحتها قبل حوالي سنتين في إحدى الندوات المهمّة التي عقدها المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية «مدار» بهذا الخصوص.
وهكذا فإنّ على القيادة الرسمية الفلسطينية أن لا تتهرّب من المسؤولية أمام هذه المخططات الواضحة، بل وشديدة الوضوح، وعليها أن تعرف بأن أقصى ما يمكن أن تتحصّل عليه هذه القيادة في حال إن تمكّنت إسرائيل من الوصول إلى مرحلة الحرب والعدوان على الضفة هو ما أوردناه آنفاً، وعلى قيادة المقاومة في القطاع أن لا تتهرّب بدورها من المسؤولية إزاء ما تخطط له إسرائيل لفصل القطاع عن الضفة، والاستفراد بها بعد «إخضاع» القطاع. وعلى «محور المقاومة» أن يستوعب جيداً وعميقاً ما تخطط له إسرائيل، كل إسرائيل لمستقبل الصراع كله، واللبيب بالإشارة يفهم.
ولكن علينا أن ندرك بأنّ هذه الخطط هي محاولة يائسة، وفاشلة، وليست سوى هلوسات يتم طرحها للهروب من الهزيمة التي لحقت بالمشروع الصهيوني، ويتم وضعها في مصفوفات سياسية وفكرية لأنها باتت الوحيدة التي يمكن أن تغطي على الفشل الاستراتيجي الذي وصلت إليه دولة الاحتلال.
بل وأُضيف هنا بأن هذا الفشل بالذات هو السبب الحقيقي لكل ما سمّي بـ «حسم الصراع» قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والفشل الجديد ما بعده هو سبب الخطة الإسرائيلية الجديدة، والتي أصبحت مكشوفة تماماً. أمّا دليلي على هذا الترابط فهو أن دولة الاحتلال اعتقدت قبل «طوفان الأقصى»، بأنّ الظروف باتت ممهدّة للبدء في «حسم الصراع»، وعندما باشرت بالإقدام عليها، وعندما «اطمأنّت» أنّ الأمور باتت ناضجة، من «تطبيع»، ومن «تجاهل» دولي للحل السياسي، ومن «تساوق» بعض الأنظمة العربية مع هذا التجاهل جاء «الطوفان»، بصرف النظر عن أيّ اعتبارات خاصة كانت كامنة في خطة حركة حماس للهجوم للردّ على «حسم الصراع».
نعود الآن إلى «المرحلة الثالثة»، وكيف أنها اللغز والمفتاح لفهم الهلوسات الإسرائيلية التي تشكّل في الجوهر «استراتيجية» «اليمين الفاشي» في الدولة العبرية، والتي تسود في الواقع الإسرائيلي بما في ذلك في صفوف الأكثرية الساحقة من «المعارضة».
السبب الحقيقي لما يسمّى بـ «المرحلة الثالثة»، وخصوصاً بعد أن انتهى غزو رفح إلى صفر نتائج من زاوية «القضاء» على «حماس»، وبعد أن اعترفت القيادة العسكرية الإسرائيلية، إمّا مباشرةً على لسان قادة الجيش، أو على لسان جنرالات يشاركون في الحرب، أو هم على تماس مباشر معها، بأنّ كل ما تمّ تدميره من المقاومة لا يتجاوز 35-40% من قوامها العسكري، وأنّ الأغلبية الساحقة من المقاتلين الذين كانوا يتواجدون في منطقة رفح، «هربوا» إلى أماكن أخرى.
وتتحدث إسرائيل نفسها عن أن المقاومة قد عادت من جديد إلى الشجاعية، وإلى شمال غزّة، وإلى كامل منطقة الوسط، وإذا صحّت الأنباء التي تقول بأن آلافاً من المقاتلين قد انضموا إلى صفوف المقاومة في الشهرين الأخيرين، فإنّ قوام المقاومة على الصعيد العسكري بات أكبر مما كان عليه قبل العدوان على القطاع.. فهل هذا الواقع هو سبب للانكفاء وتجميع القوات في محوري «نيتساريم» و«فيلادلفيا»، أم أنّه يفترض زجّ المزيد من القوات لمواجهة إعادة الانتشار الجديد للمقاومة في القطاع؟
وعندما تناشد القيادات العسكرية، وتنادي بأعلى صوتها بأنّها بحاجة إلى أكثر من 10,000 مقاتل جديد في صفوف الجيش بصورة عاجلة وملحّة، فهل هذا يعني بأنّ الجيش لم يعد قادراً على مواجهة هذا الانتشار الجديد للمقاومة، وأنّ بقاءها سيعني تعريض قوات الاحتلال للاستنزاف، وربما الانكسار والفرار والانهيار أم لا؟
إذا أضفنا إلى ذلك ما قاله الجنرال اسحق بريك بأن مئات الجنود طلبوا منه شخصياً أن يظلّ على موقفه بأن إسرائيل قد هُزمت، وأنّ كل ما تقوله أبواق الجيش هو كذب وتضليل، وأنّ هؤلاء الجنود لا يعرفون أين هي «حماس»، وأنّهم لم يواجهوا مقاتليها ولا لمرة واحدة، وأنّ كل بيانات الجيش حول قتل المئات من هؤلاء المقاتلين هي أخبار «مفبركة» وليس لها أيّ أساس من الصحة.. فماذا نستنتج من ذلك سوى أنّ المرحلة الثالثة ليست سوى الاسم الحركي للهروب من الاستمرار في النزف والاستنزاف؟
وإذا كان آلاف المقاتلين يتوزّعون الآن على كل القطاع من جديد، وعلى شكل مجموعات من 3-4 مقاتلين، وتعرف كل مجموعة نطاق عملها «العملياتي» فمن أين لإسرائيل أن تغطي القتال مع هذه المجموعات التي باتت بالآلاف، وكيف لسلاح الجو أو المدفعية أن يقاتلها؟ أو يحسم أو يربح الحرب عليها؟
يبدو أنّ جنرالات الجيش قد أدركوا الآن أنّ الحرب في القطاع قد «حُسمت»، وأنّ «المرحلة الثالثة» هي البديل عن إعلان نتيجة هذا الحسم، وأنّ حرب الإبادة والتطهير العرقي قد استنفدت كل احتياطاتها، وزادت وفاضت، وأنّ الذهاب إلى أبعد من ذلك في هذه الحرب هو بمثابة عبث في عبث للتستّر على إعلان الهزيمة.
الأمور لم تقف عند هذا الحدّ، فقد ضربت المقاومة في القطاع بقوة في الأشهر الأخيرة وألحقت بقوات الاحتلال خسائر فادحة، وأصبحت قادرة على قصف التجمّعات لهذه القوات بمئات القذائف الثقيلة، وأصبح الانكفاء والانكماش في تجمّعات كبيرة أشدّ خطراً من انتشارها!
باختصار ما تسمّيه دولة الاحتلال بتخفيض وتيرة الحرب في القطاع هو انسحاب قوات الاحتلال من المواجهة العسكرية، وهو انكفاء محكوم بشدّة الضربات التي تتعرّض لها.
وسنرى في الأيام القادمة القريبة «إعلانات» مدوّية عن هذا الواقع.. هذا هو لغز ومفتاح فهم «المرحلة الثالثة»، إنها باختصار عنوان هزيمة وانكسار كبير، وليس هناك في جعبة دولة الاحتلال للتغطية على ذلك سوى بأن تسمّيها بـ«المرحلة الثالثة»
إسرائيل أمام خيارات تتراوح بين الصعبة والمستحيلة.
فهي إن أقدمت على الصفقة ستكون قد هُزمت، وإن تردّدت في قبولها فهي على طريق الهزيمة على كلّ حال.
والحرب في جنوب لبنان لن تتوقف أبداً قبل وقف العدوان على القطاع، وإسرائيل لا تستطيع الذهاب إلى الحرب على الضفة قبل أن تربح الحرب على «حزب الله» اللبناني، وعلى القطاع، لأنّ الحرب في هذه الحالة هي مجرّد الطلقة الأخيرة في جعبة «اليمين» كلّه، وربما في جعبة إسرائيل كلّها.
ولأنّ الحرب على «حزب الله» أكبر من إسرائيل، حتى لا نقول بأنّها أكبر من «اليمين» في إسرائيل، والقرار بشأنها هو أميركي، وفي عداد المستحيل السياسي الآن، وهي حرب مستحيلة قبل تحقيق نتائج جديدة في أوكرانيا، وفي بحر الصين، فإنّ التفرّد بضرب إيران أو «حزب الله» سينفع الدولة العبرية في توريط الولايات المتحدة بحرب ليس لانتصارها، وإنّما لإنقاذها فقط، ولهذا كلّه فشرط الحرب على الضفة هو تحقيق انتصارات إسرائيلية مستحيلة التحقيق، بما في ذلك سلاح «يوم القيامة» الذي يشير طرحه الى أنّ إسرائيل قد هُزمت من دون إعلان رسمي حتى الآن. هذا دون أن نحسب أنّ سلاح «يوم القيامة» موجود على طرفي معادلة الحرب.