- صافرات الإنذار تدوي في المطلة ومحيطها في إصبع الجليل
- الدفاع المدني: احتمال توقف خدماتنا بشكل كامل في مدينة غزة بسبب نفاد الوقود
- جيش الاحتلال يلقي منشورات على مدينة بيت لاهيا ويطالب النازحين والأهالي بإخلائها
منذ انهيار الدولة العثمانية، وقعت الأقاليم والدول العربية ضحية سياسة (ملء الفراغ الاستعمارية) حيث تقاسمت الدول الاستعمارية مناطق النفوذ فيما بينها وأجرت عملية تقسيم جائرة لهذه الأقاليم، فكانت بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين هما من ملأ الفراغ الذي أحدثه إنهيار الدولة العثمانية، ومع نهايات الحرب العالمية الثانية كانت بوادر أفول نجم بريطانيا وفرنسا واضحة للعيان، يقابلها صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الكوني لدورها الحاسم في الحرب العالمية الثانية، وكان الرئيس فرانكلين روزفلت متنبها لهذه اللحظة التاريخية وللانتصار الحاسم الذي حققته الولايات المتحدة فيها فصاغ سياسة ملء الفراغ وسياسة الإحلال مكان القوى المتنفذة السابقة (بريطانيا وفرنسا)، وكان الإرث الأول الذي ورثته أمريكا بموجب هذه السياسة هو إكمال تنفيذ وعد بلفور البريطاني في إنشاء الوطن القومي اليهودي (المستعمرة الإسرائيلية) على أرض فلسطين لتأكيد هذا التحول من بريطانيا إلى الولايات المتحدة التي سوف تملأ الفراغ بعد انسحاب بريطانيا من المنطقة، وهذا الأمر انطبق أيضا على كافة مستعمرات بريطانيا وفرنسا في كل من أسيا وإفريقيا عامة وفي المنطقة العربية خاصة، وقد حلت الولايات المتحدة مكانهما في النفوذ والهيمنة، تطبيقا لسياسة الإحلال وملء الفراغ، تحت مبررات توفير الأمن والحماية والاستقرار والدعم لهذه الدول وحماية مصالحها ، وقد واصلت الولايات المتحدة سياساتها هذه في ظل الحرب الباردة التي حكمت العلاقة بينها وبين الاتحاد السوفيتي، ومثلت الوريث والحليف للإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية سابقا، خوفا من وقوع مستعمراتها في قبضة الهيمنة الشيوعية السوفيتية، وقد خاضت من أجل ذلك حروبا مباشرة وأخرى بالوكالة في أكثر من إقليم من كوريا إلى فيتنام وكمبوديا وغيرها في سياق الالتزام بسياسة الإحلال وملء الفراغ، هذه السياسة لاشك أنها كانت مكلفة عسكريا واقتصاديا لميزانيات الولايات المتحدة، لكن مصالح الولايات المتحدة العابرة للحدود الدولية كانت تبرر لها ذلك ،
استمرارا لهذه السياسات وبعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو والاتحاد اليوغسلافي، سعت الولايات المتحدة أيضا إلى الإحلال وملء الفراغ الذي أحدثاه في دول أوروبا الشرقية والبلقان وفي العديد من مناطق الهيمنة السوفيتية السابقة.
لكن مع وصول الرئيس باراك أوباما الديمقراطي إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، وفي أعقاب أزمات اقتصادية عصفت بالاقتصاد الأمريكي، محملا سبب ذلك إلى السياسات المتبعة من الجمهوريين في الحروب التي شنوها في أفغانستان والعراق، وما نتج عنهما من انتشار واسع ومكلف للقوات الأمريكية خارج حدود الولايات المتحدة، هنا بدأ الحديث عن سحب القوات الأمريكية من أكثر من منطقة مثل أفغانستان والعراق لتجنب ذلك الحجم من الإنفاق العسكري وبدأ السعي والتوجه إلى عدم التورط المباشر في الصراعات التي بدأت تنتشر في منطقة الشرق الأوسط والبحث عن بدائل محلية للوجود الأمريكي تنوب عنه في الدور (الموازن من الخارج)، وهذا التوجه مثل بداية تراجع مبطن عن سياسة الإحلال وملء الفراغ التي وسمت السياسة الخارجية الأمريكية منذ عهد الرئيس فرانكلين روزفلت، ومع وصول الرئيس دونالد ترامب الجمهوري إلى سدة البيت الأبيض خلفا لباراك أوباما فقد بدأت تتجلى وبوضوح أكثر معالم السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة في التخلي التدريجي عن الإنفاق على سياسة العسكري والأمني وملء الفراغ وتمثل في العمل على تقليص الوجود العسكري في كل من سوريا والعراق ومن افغانستان ، كما ظهرت أيضا في التخلي عن المسؤوليات الأمنية والعسكرية عن أوروبا في إطار الحلف الأطلسي ومطالبة الرئيس ترامب الدول الأوروبية أن ترفع وتزيد نسبة مساهماتها في تكاليف الحلف العسكري الناتو ، وكان أعلن الرئيس ترامب ذلك صراحة أنه لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تتحمل كلفة تحقيق الأمن والحماية لكثير من الدول التي كانت تعتبر حليفة للولايات المتحدة دون مقابل ودون ثمن ...ومنها دول الخليج العربية، مؤكدا على أن تقوم هذه الدول بتحمل مسؤولياتها الأمنية والعسكرية مباشرة وعلى نفقتها الخاصة، وإذا أرادت الاستعانة بالولايات المتحدة يتوجب عليها أن تدفع التكاليف وتتحمل الأعباء المادية التي تترتب على ذلك.
يعد هذا مؤشرا أكثر وضوحا قدمته إدارة الرئيس دونالد ترامب في التخلي وفي تقليص تكاليف سياسة ملء الفراغ وتحميل الجزء الأعظم منها لتلك الدول، والبحث ايضا عن بدائل لها وفق (نظرية الموازن من الخارج)، لذا وجدنا الوجود الروسي المباشر في سوريا، والتنافس والتوافق والتعارض الإقليمي بين القوى الإقليمية (إيران تركيا والمستعمرة الإسرائيلية) على بسط الهيمنة واقتسام النفوذ في المنطقة العربية وظهر هذا جليا من خلال الأزمة والصراع في وعلى سورية.
هكذا بدأت المنطقة العربية تشهد جملة من التقلبات الاستراتيجية وفق متغيرات السياسة الأمريكية الساعية الى فرض التطبيع للعلاقات العربية مع الكيان الصهيوني لدمجه في المنطقة بسبب الرعاية الخاصة التي توليها الولايات المتحدة للكيان الصهيوني، الذي يسعى هو الآخر ان يكون له دور اساسي للمشاركة في سياسة ملء الفراغ الذي سيحدثه التحول والتغير في السياسة الأمريكية.
ولقد أكدت سياسة إدارة الرئيس دونالد ترامب على مدى أربع سنوات أن الصين وشرق أسيا باتا يمثلان التحدي الأكبر للولايات المتحدة والذي يفرض عليها المواجهة المباشرة بدءا من احتواء كوريا الشمالية ورئيسها كيم إيل سونج إلى مواجهة تمدد العملاق الصيني اقتصاديا وتقنيا الذي بات يشكل التحدي الرئيسي لمستقبل الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة على المستوى العالمي وعلى مستوى السوق الداخلي الأمريكي.
إن الرئيس الأمريكي جو بايدن المنتخب سوف يرث هذه التركة الثقيلة في العلاقات الدولية عن سلفه ترامب بعد شهرين من الآن والذي سوف يعمل على اصلاح بعض الخلل الذي احدثته الإدارة السابقة في العلاقات الأمريكية الدولية خصوصا مع حلفائها التقليديين في اوروبا وحلف الناتو بشكل رئيس كما يتوجب عليه اعادة الاعتبار والتوازن في علاقات الولايات المتحدة ودورها في هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة ،كما على السيد جو بايدن اضافة الى ذلك ان يقوم بجملة من الإصلاحات الداخلية على صعيد استعادة التوازن المختل في النسيج الاجتماعي الأمريكي وكبح بروز العنصرية و تأكيد احترام حقوق الأقليات والمرأة كما ستكون هذه من ضمن اهتمامات ادارته في علاقاتها مع الدول الأخرى .. وسيبقى الكيان الصهيوني محل الرعاية الخاص بالنسبة لإدارته.. وستبقى الصين تمثل له التحدي الاقتصادي الأكبر للاقتصاد الأمريكي .. وسيواصل ادارة الصراع العربي الاسرائيلي بشكل اقل خشونة من إدارة الرئيس ترامب وسيظهر اهتماما أكثر بعودة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية دون التراجع عن بعض الإجراءات التي اتخذتها ادارة ترامب مثل نقل السفارة الأمريكية الى القدس .. وسيعمل على اظهار السياسة الأمريكية انها ملتزمة بحل الدولتين بشكل أكثر جدية من ادارة ترامب واقل انحيازا منها لصالح الكيان الصهيوني.
هذا يوجب على الجانب الفلسطيني والعربي واجبات مهمة في انهاء حالة الانقسام الفلسطيني واعادة بناء المؤسسات الوطنية الفلسطينية بالاحتكام الى الانتخابات وتعزيز الوحدة الوطنية في اطار م. ت. ف وتأكيد وحدة الموقف العربي حول رؤيته للسلام واعادة الاعتبار لمبادرة السلام العربية والوفاء بالالتزامات الواجبة والمقرة تجاه دعم صمود الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية ووقف الهرولة العربية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني دون ثمن يرتبط بإنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من اقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس ...!
هكذا تكون المنطقة العربية قد ظلت مسرحا وحقلا لتطبيق سياسات الإحلال وملء الفراغ دون أن تتمكن من أن تكون لاعبا رئيسيا في تحديد مصيرها ومستقبلها، يبقى السؤال إلى متى تبقى المنطقة العربية مسرحا لهذه السياسات من القوى الإقليمية والدولية المختلفة على السواء ...؟
إن غياب وجود مشروع عربي نهضوي تنموي جامع يقوم على اساس احترام مفهوم الوطن والمواطنة واحترام حقوق الإنسان والحرية والمساواة ودولة المؤسسات والقانون هو السبب في بقاء المنطقة العربية مستباحة من قبل القوى الإقليمية (الكيان الصهيوني وتركيا وإيران) والقوى الدولية المختلفة على السواء.