ستشهد العشرية القادمة، وفقاً لأغلب الترجيحات والتكهنات، تزايداً في الحضور الصيني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وسينفث "التنين العملاق" نفوذه المنافس للمراكز الدولية الأخرى، من بوابة التجارة والاستثمار، وسيتحدى بحضوره، لا الولايات المتحدة التي ينخرط معها في "حرب باردة" تسخن أحياناً، بل سيتحدى أيضاً حلفاءه وأصدقاءه الدوليين والإقليميين من موسكو إلى أنقرة، مروراً بطهران.
باستثناء "الفيتو" الأميركي المُشهر في وجه دول المنطقة لمنعها من توسيع مظلة التعاون مع الصين، لا يعترض الزحف الصيني الهادئ والمتدرج إلى المنطقة، أي جدران أو عوائق من أي نوع، فالصين بخلاف عن غيرها من الاقتصادات الكبرى، أقل حذراً حين يتعلق الأمر بالاستثمار في مناطق "عدم الاستقرار"، وشركاتها لا تنتظر "شهادة حسن سلوك"، لا من صندوق النقد ولا من البنك الدوليين، وهي لا تبالي بتصنيفاتهما ولا بـ"تحليلات المخاطر" التي تصدر عنهما، والأهم من كل وذاك وتلك، أن الصين في تعاملاتها مع الأنظمة والحكومات لا تحتفظ بأي "شروط مسبقة" أو "معايير صارمة" ، فهي أقل اكتراثاً بالخلافات السياسية و"حروب الهويات"، كما أنها أقل اهتماماً بملفات من مثل: "طبيعة الحكم" والديمقراطية وحقوق الإنسان، إن لم نقل إنها ليست مهتمة بها على الإطلاق.
مقاربتها للمنطقة، التي تحمل اسم "مبادرة الحزام والطريق"، متخففة من السياسة وتعقيداتها، تقيم أفضل العلاقات مع إسرائيل والفلسطينيين، السنة والشيعة، الإمارات وتركيا، السعودية وإيران، الجزائر والمغرب. مقاربتها "عابرة لخرائط" الانقسامات السياسية والإيديولوجية والدينية والمذهبية، طالما أنها تقوم على توسيع شبكة نفوذها الاقتصادي والتجاري والاستثماري، وتنجح في فرض نفسها كلاعب لا يمكن الاستغناء عن خدماته لآجال قادمة، إن لم يكن بقوة "المصالح المشتركة"، فبقوة العقود والاتفاقات المبرمة، التي تمكنها من "وضع اليد" على قدرٍ ليس بيسير من "موجودات" هذه الدول.
على أن "الفيتو" الأميركي المشهر في وجه التمدد الصيني في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يأخذ في فقدان فعاليته وتأثيره، تدريجياً ويوماً إثر آخر، ويعود ذلك إلى جملة من الأسباب، أهمها: (1) أن واشنطن بلا مشروع حقيقي في المنطقة، بعد أن حصرت اهتمامها بمواجهة إيران وأمن إسرائيل. (2) أن واشنطن، تنتهج منذ أوباما، وبالأخص في عهد ترامب، سياسة "إدارة الظهر" للشرق الأوسط، ما يدفع دوله ومجتمعاته للبحث عمّن يملأ فراغها. (3) أن واشنطن بانتهاجها سياسات "انكفائية" دولياً، وتنصلها المتكرر من التزاماتها المقررة بموجب اتفاقات ومعاهدات دولية وثنائية، لم تعد مصدراً للثقة والطمأنينة لدى عدد متزايد من دول المنطقة وحكوماتها. (4) أن الكلف الباهظة للتكنولوجيا والسلاح الأميركيين، تبدو عصية على الاحتمال بالنسبة لكثير من دول المنطقة، التي تنتقل من فشل اقتصادي إلى فشل أعمق وأشد، وتشتد حاجتها كما لم يحدث من قبل، لمدّ يد العون من الخارج، والصين تقف دائماً على أهبة الاستعداد لمد هذه اليد، بما يخدم مصالح شركاتها العملاقة أولاً، ويوفر الاحتياجات الضاغطة لدول المنطقة ثانياً.
النموذج الصيني الجاذب
في مقال سابق حمل عنوان "هل بمقدور الصين قيادة العالم؟"، تحدثنا عن أركان القيادة الثلاثة: القوة، الثروة و"الشرعية"، القوة بمعانيها الأوسع من الاقتدار العسكري، والثروة بمعنى توفر مصادر وفيرة لإدامة التفوق، و"الشرعية" المستمدة من منظومة قيمية وأخلاقية. بالنسبة لحكومات الشرق الأوسط وأنظمتها، ليست "الشرعية" متطلباً ضرورياً لفتح أبواب دولها ومجتمعاتها لهذه القوة الدولية أو تلك، بل إن هذه الحكومات والأنظمة تفضل التعاون مع مراكز دولية، لا تؤرق رأسها بحكايات عن "الانتخابات الشفافة" وحقوق المثليين والنساء والأطفال، ولا بالتعددية وتداول السلطة. هذه المفردات تكاد تكون "مُطاردة" على امتداد الإقليم، فإن كانت لدى الصين القدرة على توفير متطلبين اثنين، فإنها ستفتح لها أبواب خزائنها ومكامن ثرواتها: الملاءة التمويلية والاستثمارية المناسبة وهذا متوفر للصين، والقدرة على توفير "شبكة أمان" لأنظمة لا شرعية لها، وهذا أمرٌ مشكوك فيه حتى الآن على الأقل.
من الكويت حتى موريتانيا، نجحت الصين في التغلغل في اقتصادات دول المنطقة، الكويت تنشئ صندوقاً استثمارياً مشتركاً مع الصين (10 مليارات دولار)، وتوكل لها مهمة بناء "هونغ كونغ جديدة" على خمسة من جزرها في الخليج العربي. في موريتانيا التجارة الثنائية تتضاعف والاستثمارات إلى زيادة. في العراق، تردد أن عادل عبد المهدي فقد موقعه في رئاسة الحكومة بعد أن أبرم أو كاد يبرم صفقات بقيمة نصف تريليون دولار مع الصين. في مصر حديث عن استثمارات بقيمة 30 مليار دولار في الطاقة ومشاريع قناة السويس والموانئ. في سورية ثمة تقديرات بأن الصين ستتفوق على إيران وروسيا مجتمعتين في حجم الحصة التي ستحظى بها في مشاريع إعادة الإعمار، والعين الصينية على ميناء على شرق المتوسط، سيما أن التسهيلات التي تحصل عليها في ميناء حيفا تبدو مهددة بعد زيارة مايك بومبيو المفاجئة لإسرائيل في أيار الفائت، في "عز الجائحة". في لبنان، ثمة عرض صيني واستجابة لبنانية غير رسمية لمشاريع من شأنها أن تغير صورة لبنان: محطات توليد كهرباء، قطارات و"أوتوسترادات" وشبكات نقل عملاقة وأنفاق وجسور تربط البقاع ببيروت في دقائق بدل ساعات. وليس كل ما ذكر، سوى غيض من فيض.
أما في إسرائيل، فقد جاء الدخول الصيني على خط الاقتصاد من أوسع بوابات الطاقة والمياه والموانئ والاتصالات والبنى التحتية، وهو ما أثار قلق وواشنطن، ودفعها للطب علناً من حليفتها المفضلة، بوقف عدد من المشاريع المهمة، وبالفعل تم تجميد استثمارات صينية بقيمة مليار ونصف المليار بعد زيارة بومبيو المذكورة.
لا حدود ولا سدود في وجه تدفق الاستثمارات الصينية إلى المنطقة، وصولاً إلى دول الخليج جميعها، وحوض البحر الأحمر والقرن الأفريقي، فيما قرون الاستشعار الصينية تعمل على مدار الساعة، من أجل التقاط الفرص وعدم إهدارها.
يتوازى ذلك مع انتعاش "دبلوماسية المساعدات والإغاثة الإنسانية"، سيما في زمن "كورونا"، إذ راقبت دول المنطقة ومجتمعاتها كيف تمكنت بكين من احتواء الوباء، وكيف تعلن واشنطن خروجه عن السيطرة، فتكون النتيجة لصالح توثيق التعاون مع الصين، مؤيدة من فئات متزايدة من الرأي العام، القلق والغاضب بدوره، من تخبط السياسات الأميركية في طول الإقليم وعرضه.
وتجد الصين في "المأزق" غير المسبوق، الذي تعيشه الديمقراطية وحقوق الإنسان عالمياً، مناسبة لشن هجوم معاكس على الولايات المتحدة والغرب، في مسعى للبرهنة على فشل نظريات "نشر الديمقراطية" و"تعميم حقوق الإنسان" وإسقاط مفهوم "القيم المشتركة" لصالح مفهوم "المستقبل الإنساني المشترك" الذي جعلت منه الصين رايةً وشعاراً لها.
غالبية الأنظمة العربية، يروقها بشكل أو بآخر، "النموذج الصيني"، الذي حقق "معجزة اقتصادية" من دون الاضطرار للسير بعيداً على طريق نشر الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، وثمة "تنظير" متعاظم في المنطقة، لـ"صوابية" هذا الخيار، وكلفه المتواضعة، سيما بعد فشل تجارب الانتقال الديمقراطي التي أعقبت ثورات الربيع العربي، وتحولها إلى العنف والاحتراب الأهلي. ولا تبالي هذه الأنظمة والحكومات كثيراً بالمقولات الاستشرافية التي تتحدث عن صدام ضروري منتظر بين النموذجين السياسي والاقتصادي في الصين، بين اقتصاد قائم على "التعددية" و"الملكية الخاصة" في قسم رئيس منه، ونظام حكم قائم على "الفرد الواحد" و"الحزب القائد".
الحرب الباردة شرق أوسطياً
في مقابل عوامل الجذب، الاقتصادية أساساً، التي تشد دول المنطقة إلى التجربة الصينية، تجد الأنظمة والحكومات العربية، "غير الشرعية" في معظمها، نفسها بحاجة ماسة (حتى الآن على الأقل) للحماية الأميركية، سيما تلك الأنظمة الأشد إيغالاً في القمع والاستبداد داخلياً، أو الأكثر ميلاً للمغامرات والحروب خارج حدودها، ولهذا السبب، ليس متوقعاً أن يكون الحضور الصيني في الإقليم، إحلالياً، أي بديلاً عن الدور الأميركي فيه، والأرجح أن يكون بموازاته وبالتنافس معه، أقله لعقد أو أزيد من السنوات.
لكن سيترتب على هذه العلاقة التنافسية بين العملاقين، أن تتحول دول عربية إلى ساحات وميادين لحرب باردة أميركية – صينية هذه المرة. ولمّا كانت واشنطن، ليست بصدد، ولا هي قادرة على مواجهة الصين في الميدان الاقتصادي والاستثماري في المنطقة، فإنه من المرجح أن تلجأ إلى وسائل وأدوات أخرى للحد من اندفاعة التنين الصيني وبناء السدود في طريقه. هنا، يتوقع المراقبون أن يزداد ميل واشنطن لممارسة ضغوطٍ سياسية ودبلوماسية، مصحوبة بالتلويح بسيف العقوبات الاقتصادية والتجارية، على الحكومات التي تجتاز أو تفكر باجتياز "الخط الأحمر" في تعاملاتها مع الصين، وسيسهم هذا التنافس بين العملاقين، في خلق انقسامات داخل المجتمعات والنخب السياسية (لبنان والعراق نموذجان على ذلك)، كما أنه قد يفضي إلى زعزعة الأمن والاستقرار محلياً وعلى مستوى الإقليم.
وليس مستبعداً أبداً، أن تفضي "الحرب الباردة" على الأسواق والاستثمارات والبنى التحتية في المنطقة بين العملاقين، إلى دفع الصين إلى تخطي حذرها التقليدي باللجوء إلى "الوسائل الخشنة" في سياساتها الخارجية، والتفكير بزيادة وجودها العسكري في المنطقة، فتحت عنوان حماية طرق التجارة في البحر الأحمر والمحيط الهندي، أنشأت الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي، وربما تحت عناوين مماثلة، تتوخى تأمين "الحزام والطريق"، سيجري العمل على زيادة انتشارها العسكري على امتداد "الطريق والحزم" أو عند مفترقاته ومفاصله الأكثر أهمية.
تدلل على ذلك، التوجهات الأخيرة التي أقرها الحزب الشيوعي الصيني، والتي تقضي برصد موازنات ضخمة لإعادة تطوير وتحديث الجيش الصيني خلال العقد القادم، ليكون قادراً على حماية البلاد داخل حدودها، وخارجها كذلك.