الكوفية:دعا مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، الفلسطينيين إلى تقديم اقتراح مضادّ إذا كانت لديهم مشاكل مع رؤية ترامب. وتلقّف العديد من الأجانب والعرب والفلسطينيين هذه الدعوة، ومن أبرزهم دينيس روس وديفيد ماكوفسكي، اللَذْين دعيا في مقال إلى تغيير الموقف الفلسطيني من التعامل مع ترامب، وتقديم اقتراح مضادّ يختبر دعوة بومبيو لأن في غيابه سيوافق ترامب على الضم.
ولاما الفلسطينيين على إضاعة الفرص المتمثلة في رفض مقترحات بيل كلينتون وإيهود أولمرت وإدارة باراك أوباما، مع أن ما عُرِض في كامب ديفيد وغداته ليس عرضًا للحل، وإنما لكشف القناع عن وجه ياسر عرفات كما قال في حينه إيهود باراك، الذي كشف مؤخرًا مرة أخرى أن البيان الذي تلاه كلينتون بعد القمة صاغه الأميركيون والإسرائيليون. أما أولمرت فلم يكن قادرًا على إقناع تسيفي ليفني وزيرة خارجيته بطرحه، وكان ما طرحه مجرد محاولة منه لتجنب السجن الذي ذهب إليه فيما بعد. أما خطة جون كيري فأفشلها نتنياهو.
وتضمنت كل هذه العروض اقتسام الضفة بين الدولة الفلسطينية وإسرائيل بدرجات متفاوتة، وتصفية قضية اللاجئين أساس وجوهر القضية الفلسطينية، وجعل الأمن الإسرائيلي مرجعية أي اتفاق. ورغم كل ذلك، لا يوجد من يضمن التزام الحكومات الإسرائيلية بها إذا تم الاتفاق عليها، فالأمر الأهم والحاسم ليس نص الاتفاق، بل توفّر الظروف والقدرة على تنفيذه. فلن تستطيع أن تحصل بالمفاوضات أكثر ما يمكن أن تحصل عليه فعلًا.
وأضاف روس وماكوفسكي في المقال أنه آن الأوان للقيادة الفلسطينية لتغيير آلية التعاطي مع ما يطرح، وليس مجرد تكرار الشعارات القديمة، والاستعداد وعدم الانتظار بأن يأتي شخص لإنقاذهم. فما يعلمنا إياه التاريخ بأن لا أحد سيفعل ذلك.
أتفق معهما في نقطة واحدة، وهي أن الانتظار ليس بديلًا ولا قادرًا على إحباط رؤية ترامب، وأنه سيقود في النهاية إلى التعايش مع الوقائع التي ستقيمها، وأن لا أحد سينقذ الفلسطينيين ما لم ينقذوا أنفسهم. وأختلف معهما في كل ما ذهبا إليه غير ذلك، لأن دعوة بومبيو مفضوحة، ومجرد فخ نصبه للفلسطينيين، وهو يعرف أن ليس بمقدورهم الموافقة على طرح تصوّر مضاد مختلف أو أقل من الطرح الذي يقدمونه.
وإذا وافقوا على الانخراط وقبول “فذلكات” طرح تصوّر مضاد جديد أو لم يوافقوا، فسيجدوا أنفسهم ينزلقون سريعًا إلى التفاوض على رؤية ترامب، لأنها اللعبة الوحيدة في المدينة، وهذا سيضعهم في موقف صعب إما الموافقة على ما رفضوه، أي الانتحار السياسي، أو العودة بخفي حنين. وسيؤدي القبول إلى المزيد من الخلافات الفلسطينية الفلسطينية، وسيزدادون شرذمة وانقسامًا، وستفقد القيادة ما تبقى لها من ثقة ومصداقية، لأنها غيرت موقفها من رؤية ترامب، والتعامل مع إدارته لمجرد دعوة لها وجهها بومبيو من دون رصيد حقيقي بل مجرد دعوة لتقديم تصور مضاد.
وإذا رفضوا تقديم المطلوب منهم (وهذا هدف بومبيو الحقيقي) فستتذرع إدارة ترامب بالرفض الفلسطيني الجديد للموافقة على الضم الذي يمكن أن يتم الشروع فيه ابتداء من شهر تموز القادم.
كما أن التصور الفلسطيني المضاد موجود، وكرره الرئيس الفلسطيني مرارًا وتكرارًا، ويقوم على التمسك بتجسيد الدولة على حدود 67 مع تبادل للأراضي، وحل عادل متفق عليه لقضية اللاجئين، من خلال مؤتمر دولي يكسر الانفراد الأميركي برعاية المفاوضات، ورغم اعتراضي على هذا التصور كونه يواصل السير بنفس المسار الذي وصل إلى الطريق المسدود، ويعيد إنتاج الأوهام والرهانات والحسابات الخاطئة والخاسرة حول التسوية التفاوضية، وإمكانية عقد مؤتمر دولي في ظل المعطيات وموازين القوى القائمة حاليًا، ولكنه موجود ومعروف.
إن اقتراح روس وماكوفسكي ينساق مع ما يحاول بومبيو أن يدعيه، من خلال تحميل المسؤولية للفلسطينيين عن إضاعة الفرص، مع أنهم قدموا تنازلات كبرى، مثل الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، والموافقة على حل متفق عليه لقضية اللاجئين، وعلى مبدأ تبادل الأراضي، ودولة منزوعة السلاح، ويصوّر وكأن الموقف الأميركي غير محسوم وقابل للتغيير، ويتجاهل أن الضم الذي يمكن أن تُقْدِم عليه الحكومة الإسرائيلية القادمة جزء من رؤية ترامب التي لا تستهدف التوصل إلى تسوية، وإنما تصفية القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها.
صحيح إن اقتراح بومبيو يكشف المأزق الذي وجدت إدارة ترامب نفسها فيه، وهو أن ما تطرحه مرفوض رفضًا واسعًا عالميًا، إضافة إلى وجود رفض إسرائيلي للضم من أحزاب ومراكز أبحاث وأوساط أمنية وعسكرية، والأهم أنه لا يوجد شريك فلسطيني له، ما يجعله محاولة لفرض الحل الإسرائيلي بالقوة وليس سلامًا وازدهارًا كما يدعون، الأمر الذي سيقود إلى مواجهات وتهديد للأمن والاستقرار.
ولكن لن تتراجع الإدارة الأميركية عن رؤيتها، وخصوصًا أن ترامب بحاجة أكثر إلى دعم المحافظين الجدد والإنجليكانيين بعد أن تراجعت شعبيته، وتراجعت فرصه بالفوز، لا سيما بعد إخفاقه المريع في معالجة جائحة كورونا.
إن حقيقة الموقف الأميركي الذي يحاول روس وماكوفسكي تجاهله أو التغطية عليه تظهر بأن لجنة أميركية إسرائيلية تقوم برسم الخرائط التي ستحدد الأراضي التي ستضم، إضافة إلى أن من ضمن أهداف زيارة بومبيو المحتملة المصادقة عليها .
من الممكن أن يحاول بومبيو إقناع نتنياهو بأن يعلن موافقة حكومته على رؤية ترامب كاملة، وليس أخذ ما يريده منها وترك الباقي، بما في ذلك التوقف عن توسيع المستوطنات المعزولة، وبناء بؤر استيطانية جديدة، ودعوة الفلسطينيين للتفاوض، لأن ذلك كله يخفف من المعارضة العالمية للخطة، ويسهل على بعض العرب التعاطي معها، وهذا أمر متاح أكثر، خصوصًا إذا لم يشارك فيها حزب “يمينا” الأكثر تطرفًا، الذي عارض الموافقة على الرؤية الأميركية كما هي في الحكومة القادمة.
وتظهر حقيقة الموقف الأميركي بدعوة ديفيد فريدمان، السفير الأميركي المتطرف إسرائيل، للإسراع بضم الغور والمستوطنات، واعتبار أن التنازل عن الخليل و”بيت إيل” مستحيل مثل استحالة تنازل الولايات المتحدة عن تمثال الحرية، فما يفضله ترامب ليس ضمًا أحادي الجانب، وإنما ضم موافق عليه من الفلسطينيين. وإذا لم يوافق الفلسطينيون على الضم، سيكون الضم تحصيلًا حاصلًا.
وهناك نقطة أخرى يجري الترويج لها، وهي ضرورة توظيف الفلسطينيين لما جاء في الاتفاق الائتلافي بين “الليكود” و”أزرق أبيض” من نقاط نصّت على ضرورة الحفاظ على اتفاقيات السلام، وعدم إغلاق الباب عقد اتفاقيات جديدة، والحفاظ على استقرار المنطقة، وعلى المصالح الإستراتيجية والأمنية، وتجاهل هؤلاء الدعاة غياب أي ذكر للفلسطينيين، قيادة وسلطة وشعبًا، في اتفاقية الائتلاف المذكورة التي يراد الاستناد إليها.
إن هذه النقاط الواردة في اتفاق نتنياهو وغانتس يمكن تفعيلها وتوظيفها في حالتين فقط:
الأولى: إقامة وحدة وطنية فلسطينية على أساس شراكة وإستراتيجية واحدة، تتضمن الشروع في مقاومة ذات أفق بالتحول إلى انتفاضة، حينها ستخشى إسرائيل على الاستقرار ومصالحها الأمنية والإستراتيجية وعلى المعاهدات التي عقدتها مع مصر والأردن وتهدد إمكانية إبرام اتفاقيات جديدة.
أما الثانية، فموقف أردني يهدد بإلغاء معاهدة وادي عربة إذا أقدمت إسرائيل على الضم، لأن المعاهدة جاءت بعد أوسلو وكان لا بد أن تكون بعده للترابط الفلسطيني الأردني، لأن تداعيات الضم خطيرة على الأردن وأمنه.
أما تقديم ما هو مطلوب من الفلسطينيين تقديمه، وهو تصور فلسطيني جديد يتكيّف مع الرؤية الأميركية فيؤدي إلى كارثة أكبر من تلك التي نعيشها الآن.
إن ما تطلبه الولايات المتحدة وإسرائيل من القيادة الفلسطينية في حقيقته هو التنازل عن تصورها وعن الحقوق الفلسطينية حتى في حدّها الأدنى، عبر الموافقة على التفاوض على أساس رؤية ترامب مع العمل على تحسينها، والتقليل من شرورها، في حين أنها في حقيقتها طبخة مسمومة لا يغير من سمها القاتل رش بعض أو كثير من العسل عليها.
وعلى أهمية الرفض الفلسطيني الجماعي لرؤية ترامب إلا أنه غير قادر وحده على إحباطها، واستمراره معلق في السماء بلا أرجل تضعه على أرض ثابتة يستند إليها عبر إستراتيجية وخطة ملموسة، وفي ظل استمرار وتعميق الانقسام واستمرار التهديد اللفظي في تنفيذ القرارات المتخذة منذ سنوات، وبإلغاء الاتفاقيات والعلاقات، مع بقاء كل شيء على حاله، فهذا لا يحبط المؤامرة، بل يساهم في تعبيد الطريق أمامها.
فالمطلوب رد إستراتيجي فلسطيني يتناسب مع الخطر الإستراتيجي الوجودي الذي يهدد القضية الفلسطينية والأرض والشعب بمختلف قواه وأفراده، وحتى هذه اللحظة لا يوجد ما يدل عليه، وينتظر من يعلق الجرس، ومن يملك زمام المبادرة؟.