في واحدة من زيارات الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى قطر، وكنت معه التقيت بالإعلامي سامي حداد الذي طلب مني مساعدته في إجراء حوارٍ مع الرئيس.
كان سامي رحمه الله، محاوراً بارعاً في إثارة ضيوفه، بطرح أسئلة محرجة، منهم من كان يستفز ويخرج عن طوره، وفي ذلك اللقاء الأول معه كان بطل المشهد ياسر عرفات.
لم أعد أذكر ذلك السؤال الذي جعل ياسر عرفات يزيح بيده الميكروفون بحركة عصبية، وينهض عن مقعده قائلاً لسامي: "يا بخت إسرائيل فيك". وأنهي اللقاء.
لم ييأس سامي وطلب مني بإصرار أن أقنع الرئيس بالعودة للكاميرا، ومع أنني كنت متأكدا من أنه لن يعود إلا أنني حاولت وفشلت.
غير أن الجزيرة اعتبرت ما حدث نجاحاً مهنيا من طراز نادر، إذ وضعت المشهد الذي سُجل بالصوت والصورة على شاشاتها لعدة أسابيع، وكان أحد أهم مشاهد الإثارة التي استقطبت مشاهدين كثر.
انطلقت الجزيرة بتزامن مع انطلاقة أوسلو، مع فارق زمني بسيط، وكانت السلطة بما تحتويه تجربتها من وقائع إشكالية بمثابة الحدث الأهم الذي مارست به الجزيرة نهجها الذي اعتبر جديداً في مجال البث التلفزيوني العربي، المسيطر على جميع محطاته من قبل الأنظمة الرسمية حيث الانضباط الصارم لسياساتها.
لم تكن أوسلو والسلطة التي أنتجتها محل إجماع فلسطيني، وكانت التجربة الجديدة مجالاً خصباً للمعالجات الجذابة والمثيرة، وذلك من خلال برامج تخصصت في معالجة ظواهر الخلل والفساد الذي ظهر في سلوكها، مع تحيز ظاهر لخصوم السلطة الذي كان الإسلام السياسي مجسداً بحركة حماس أهم وأفعل المعارضين.
وقد وفرت استضافة الجزيرة وخصوصاً في برنامج الاتجاه المعاكس لمتحدثين يمثلون الطرفين في الهجوم والدفاع جمهورا متناميا مع كل حلقة من حلقات البرنامج.
لم يكن الاتجاه المستجد الذي جسدته الجزيرة ليروق لصناع تجربة السلطة، وعلى رأسهم بالطبع ياسر عرفات.
لقد راودته فكرة حظرها في مناطق السلطة أكثر من مرة، إلا أنه كان وبفعل حساباته ودهائه يصغي لمن ينصحه بتجنب ذلك، ولم يحدث رغم مواصلة الجزيرة نهجها المنتقد بشدة للسلطة، أن أصدر قراراً بوقفها بل كان يقبل الظهور على شاشاتها.
إحدى الوقائع التي وصلت فيها أزمات الجزيرة مع السلطة ذروتها، كانت حين بثت برنامجاً عن الحرب الداخلية في لبنان، أظهرت في مقدمته صورةً غير مناسبة لياسر عرفات، ما أثار حفيظة حركة فتح التي نظمت مظاهرة حاشدة أمام المبنى الذي تعمل منه الجزيرة وتعالت هتافات تدعو لإغلاقها.
كان الرئيس عرفات آنذاك خارج البلد وحين عاد وعرف بالأمر، دعا طاقم الجزيرة وعلى رأسه وليد العمري الذي ما يزال رئيساً لفريقها في فلسطين، وشيرين أبو عاقلة التي استشهدت في الميدان، دعاهم لمقابلته وتناول طعام العشاء معه، وأبلغهم بأنهم في حمايته.
غير أن الجزيرة ظلت بالنسبة لفتح منبراً إن لم يكن معادياً فهو طرف منحاز لخصومها ومنافسيها، وهكذا ظلت العلاقة طيلة عمر الجزيرة منذ انطلاقها في العام 96 إلى أيامنا هذه.
بالأمس صدر قرار بوقف بث وتجميد كافة أعمال فضائية الجزيرة في مناطق السلطة، ويقول المصدر الرسمي الي أذاع النبأ أن هذا القرار جاء إثر بث الجزيرة مواد تحريضية وتقارير تتسم بالتضليل وإثارة الفتنة والعبث، والتدخل في الشؤون الداخلية الفلسطينية.
قرار السلطة بهذا الشأن سوف تستفيد منه الجزيرة بمضاعفة عديد مشاهديها وفق قاعدة "إذا ما أردت مضاعفة جمهور منبر ما اجعل منه مشكلة يتداولها الناس".
في اعتقادي إن الأهم من إغلاق الجزيرة بقرار رسمي أن تنتج السلطة إعلاماً منافساً يقتطع من جمهور الجزيرة نسبة من المتابعين، خصوصاً وأن مناطق السلطة من غزة إلى الضفة هي منجم إخباري تتسابق كل منابر الكون على تغطية تطوراته. وفيما يتصل بإغلاق الجزيرة فلا بد من أن يؤخذ في الاعتبار حقيقة أن التطور التكنولوجي في مجال البث الفضائي يجعل من المستحيل إلغاء أي منبر.