سأبدأ هذا المقال من الاستطلاع الأخير لـ»القناة 12» الإسرائيلية: في شقّ معادلة التوازن السياسي الداخلي سيحصل «الليكود» على حوالى 26 مقعداً، و»المعسكر الوطني» على 22 مقعداً، فيما سيحصل «ييش عتيد» برئاسة يائير لابيد على 13 مقعداً، وكذلك حزب أفيغدور ليبرمان على 13 مقعداً.
بالنسبة للقوى الأخرى لا يوجد جديد بما في ذلك الأحزاب الدينية، وفقط الجديد في هذا الواقع هو التوقّع بحصول الحزب الديمقراطي، وهو خلطة «يسارية» جديدة على 10 مقاعد.
وفي مسألة رئاسة الحكومة تنحصر المنافسة بين بنيامين نتنياهو ونفتالي بينيت بواقع 38% للأوّل، و35% للثاني، فيما لا يوجد أي حظوظ لأي شخصية أخرى.
إذا افترضنا أنّ القوائم العربية ستحصل على 10 مقاعد حسب نفس الاستطلاع، وافترضنا أن «التجمع الوطني الديمقراطي»، وهو يبدو أنّه سيتجاوز نسبة الحسم هذه المرّة بما يساوي 4 مقاعد تصبح القوائم العربية 14 مقعداً، وتتفوّق على نسبة ما سيحصل عليه كل من لابيد وليبرمان كلّ على حدة.
وإذا أضفنا إلى الكتلة العربية الخلطة الديمقراطية «اليسارية» الجديدة يصحّ لدينا في أقصى الحدود 24 مقعداً تشكل بصورة أو بأخرى معارضة جدية في الواقع الإسرائيلي الجديد.
وهذا يعني بالمجمل أنّ أحزاب «يمين الوسط» تفقد القدرة على المنافسة على مستويات كثيرة، ومنها تقديم شخصيات وازنة تحظى بثقة الجمهور الإسرائيلي على مستوى رئاسة الوزراء، والدليل أنّ المنافسة على هذا الصعيد باتت محصورة بين نتنياهو وبينيت، أي بين متطرفين لا ثالث لهما.
وتفقد هذه الأحزاب تباعاً قدرتها على أن تشكّل مركزاً في منطقة المركز السياسي في دولة الاحتلال، وأنّ عليها إن هي أرادت أن تصل إلى هذا الدور أن تحسم أمرها؛ إمّا باتجاه الذهاب إلى منافسة «اليمين الفاشي» من على نفس القاعدة الفكرية والسياسية، وإمّا أن تقترب من الكتل العربية، ومن مواقف «الخلطة» اليسارية الجديدة حتى تتمكن من إقامة تحالف جديد معها لإقامة حكومة بديلة عن «حكومة اليمين الفاشي»، ولأنّه من دون ذلك، ومن دون أن تقدم نفسها على هذا الأساس، وأن تقدم على هذا الخط الجديد في مسارها الجديد لن تتمكن أبداً من تشكيل حكومة بديلة، تماماً كما أن هذا التوازن القائم حتى الآن لا يعطي لـ»اليمين الفاشي» إمكانية تشكيل حكومة على الإطلاق، وذلك لأن «المعارضة» بالمعنى الذي عهدناه في الفترة الماضية من عمر هذه الحكومة ليس لديها سوى 58 مقعداً غير قابلة للزيادة، ولأنّ الائتلاف الحاكم ليس لديه أكثر من 52 مقعداً غير قابلة للزيادة ولا حتى بمقعدٍ واحد.
ومن مفارقات هذا الاستطلاع، ومن معطياته المذهلة أنّ الجمهور الإسرائيلي يزيد من دعمه لنتنياهو ولحزبه بعد كل هذا الفشل في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، وعلى مدار أكثر من عام كامل من الحرب الإبادية الطاحنة بعد «الطوفان».
والتفسير الوحيد الذي يقبله أيّ منطق عقلاني هو أنّ هذا الجمهور متعطّش للدم وللثأر والانتقام أكثر مما هو مهتم بالإنجازات الحقيقية القابلة للقياس. واهتمامه هو «الخلاص» الذي يبشّر به نتنياهو.
وهو يشعر بالنشوة الخاصة عندما يرى الاغتيالات والتدمير والنيران المرتفعة إلى السماء.
بل يبدو أنّ هذا الجمهور بات «متسامحاً» مع حكومته حيال الخسائر الباهظة التي تدفعها دولة الاحتلال، بما في ذلك الخسائر العسكرية التي تجاوزت كل الخسائر في كل الحروب السابقة.
ويكفي أن نشير هنا إلى أن رئيس «المعارضة» لابيد قبل عدة أيام، وفي جلسة علنية للكنيست أشار إلى أنّ لدى دولة الاحتلال أكثر من 12.000 جريح منذ بداية هذه الحرب.
الشقّ الثاني من الاستطلاع يتعلّق بالانتخابات الأميركية.
أعتقد أنّ هذه النتائج ستربك كل علماء النفس الجماهيري، وهي نتائج لا يحكمها أيّ منطق من أيّ نوع كان.
وإذا كان يحكمها منطق من نوع خاص، وفريد، فهذا يعني بحد ذاته سبباً كافياً للإرباك.
فقد أظهرت النتائج أنّ حوالى 66% من المجتمع الإسرائيلي يحبّذون فوز المرشّح دونالد ترامب، بعد كل ما قدمته الإدارة الأميركية من دعم وإسناد في كل الاتجاهات، وأغدقت على دولة الاحتلال من أسلحة فتّاكة، ومن دعم مالي فاق كل التوقعات، وبعد أن شاركت هذه الإدارة في كل أشكال هذه الحرب التدميرية، وجلست في غرفة عملياتها، وبعد أن شاركت بصورة مباشرة في كل العمليات التي قامت بها دولة الاحتلال!، بما في ذلك الاغتيالات التي بات معروفاً الآن أنها أميركية. أي أنّ اثنين من كل ثلاثة أشخاص من هذا المجتمع ليسا ممتنّين لهذه الإدارة، وهما يشعران بضرورة رحيلها؟!، هذا على الأقل.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا، ماذا كان على هذه الإدارة أن تفعل أكثر مما فعلت حتى أن يكون نصف هذا الجمهور ــ على الأقلّ ــ راضياً عنها، ولا يتمنّى اختفاءها عن المسرح السياسي؟!
والمصيبة أنّ الباقي من هذا الجمهور ليس مع هذه الإدارة، وإنّما 17% فقط منه يؤيّد بقاءها فقط.
وأمّا عندما يتعلّق الأمر بجمهور «الليكود» فالمسألة برمّتها تدخل في إطار «الدراما السياسية»!
إذ تبيّن من نتائج الاستطلاع أنّ 93% من مؤيدي «الليكود» هم ضد هذه الإدارة التي فعلت كلّ شيء من أجل حكومة الاحتلال، ومن أجل الدولة الصهيونية، وأنّ 1% فقط من هذا الجمهور يؤيّد إدارة الحزب الديمقراطي، وهي الإدارة التي يشكل فيها اليهود الصهاينة أغلبية كاسحة.
والنتيجة في الواقع تقول إنّه في إطار جمهور «الليكود» يوجد رقم سوريالي وهو أنّه مقابل 1% من هذا الجمهور يوجد 93%. أما الفرق بين 1% و93% فهم محتارون، وإذا اعتمدنا المعدّل الوسطي يصبح 99% من جمهور «الليكود» مع ترامب وضد الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة.
والاستنتاج هنا هو أنّ المجتمع الإسرائيلي عامّة، والجمهور «اليميني» بمن فيهم عتاة الفاشية والعنصرية بأغلبية ساحقة لا يريدون أقلّ من الاصطفاف التام للولايات المتحدة لصالح كل سياسات القتل والتهجير والإبادة والضمّ والقتل والتطهير العرقي، وليس أقلّ من ذلك بالرغم من أنّه لولا هذا الدعم الأميركي الذي فاق كل التصورات لكانت دولة الاحتلال الآن، وفي ضوء هذه الحرب نفسها، في وضع بالغ الحرج.
وسنحاول في المقال القادم أن نرى علاقة ذلك كله بالتحوّلات التي جرت في المجتمع الأميركي حيال الإجرام والتوحُّش الصهيوني، وفيما إذا كان الجمهور الإسرائيلي سيصاب بخيبة أمل كبيرة بعد ظهور نتائج الانتخابات في الولايات المتحدة.