طال الحديث عن الردّ من جانب إيران، ومن جانب «حزب الله» اللبناني، ومن جانب «أنصار الله» الحوثيين، و«الحشد الشعبي» العراقي، أيضاً، إلى درجة تحوّل فيه هذا الردّ إلى مسألة بحد ذاتها، وإلى درجة يبدو فيها هذا الردّ كحدث مطلوب بدواعٍ ودوافع ثأرية وانتقامية، يكاد يكون معزولاً في ذهن البعض عن السياقات السياسية، وعن التبعات الكبيرة المتوقعة بعد حدوثه.
ومع أنّ شيئاً من هذا كلّه ينطوي على بعض الصحة، إلا أن الأمر، وخصوصاً بعد التحشيد الأميركي غير المسبوق قد تغيّر، بعد أن «استقتلت» الولايات المتحدة نفسها للبدء بجولة جديدة من مفاوضات صفقة «استعادة الرهائن» كما أصبحت تسمّى في العرف الأميركي، وفي لغة أهل الوساطة أحياناً، وبعد أن تبنّت الإدارة الأميركية، تحت مسمّى «تفهّمها» للمطالب الأمنية الإسرائيلية كافة الشروط التي وضعها بنيامين نتنياهو وبعد أن تحوّلت مبادرة جو بايدن إلى قرار لمجلس الأمن، لكي يعاد النظر بها ليتضمن الشروط الإسرائيلية الجديدة.
فلماذا «استماتت» أميركا لبدء هذه الجولة من مفاوضات الصفقة، طالما أنها ــ أي أميركا ــ تعرف أنّ المقاومة في قطاع غزّة لن ترضخ لشروطها الإسرائيلية الجديدة، وطالما أنها تدرك أنّ هذا التبني لن يردع «محور المقاومة» إن لم يكن العكس هو الصحيح، وطالما أن هذا التبني سيعجل، وسيحتّم الرد بدلاً من الامتناع عنه، أو تأجيله؟
يبدو هذا السؤال هو الأكثر إثارة للحيرة، وأكثرها تعقيداً من زاوية القدرة على الإجابة عنه.
إمّا أن تكون الإدارة الأميركية في هيئة الدولة العميقة، ومن صميم مواقف وموقع الحزب الديمقراطي الأميركي قد «فهموا» أنّ الذهاب إلى الصفقة في القطاع على أساس الإطار الذي حدّده قرار مجلس الأمن، والذي هو «تتويج» لمبادرة بايدن، والذي قال هو نفسه، إنها بالأساس اقتراحات إسرائيلية طرحها نتنياهو شخصياً سيؤدي إلى «تمرّد» الأخير عليها، والتلاعب بورقة استمرار الحرب وجرجرتها إلى مشارف الانتخابات الأميركية!
وهذا يعني بلغة السياسة التي تفهمها الإدارة الأميركية أنّ الأمر يتعلق بابتزاز هذه الإدارة بمجيء المرشّح دونالد ترامب، أو أن هذه الإدارة ــ إذا أرادت تفادي ذلك ــ باتت مطالبة بتبني الشروط الإسرائيلية للصفقة لكي يبدو نتنياهو منتصراً، وفي هذه الحالة فإنّ الردّ الإيراني، ورد «حزب الله» سيتم احتواؤه بالردّ والردّ المقابل، وبحيث لا يؤثّر هذا الرد على صورة «الانتصار» الذي يكون نتنياهو قد «رسّخها» في الواقع، وحينها فقط يمكن أن يؤمّن مستقبله السياسي، بل يمكنه الاستمرار بالحرب حتى تحقيق أهداف المشروع الصهيوني في هيئة النسخة العنصرية الفاشية من هذا المشروع.
باختصار فإنّ صفقة قد تمّت تمهيداً للتي «استماتت» أميركا لفرضها، والتمهيد لها مسبقاً بمحاولة تصوير المقاومة في القطاع بأنّها هي من تعارض الصفقة، وبالتالي هي المسؤولة عن استمرار معاناة الأهل في القطاع!
وتحت، وفي ظل هذا الجو من الإرهاب المباشر الذي تمارسه أميركا ضد شعبنا، وفي ظل كلام وزير خارجيتها أنتوني بلينكن بأن قبول حركة حماس بالشروط الجديدة هو السبيل الوحيد لدخول الغذاء والدواء إلى القطاع، وهو تصريح يمكن أن يقدّم بموجبه بلينكن للمحاكم الدولية مستقبلاً، يتبين لنا بوضوح تام معالم الصفقة التي عقدها نتنياهو مع هذه الإدارة.
بل أبعد من ذلك، إذ أرى أنّ الجولة العسكرية القادمة، والتي يمكن أن تندفع في أي لحظة، وأن تستمرّ لعدة أسابيع، وليس لأيّام ــ كما يتوقّع البعض، وقد تمتدّ لعدّة أشهر، وقد تستخدم لإعلان حالة الطوارئ في أميركا إذا كان «الديمقراطي» ليس ضامناً لنتائجها.. وقد تعطي لدولة الاحتلال خلالها «أي خلال هذه الجولة الكبيرة من الحرب» فرصة لإنجاز ما فشلت في إنجازه في القطاع، وليس مستبعداً أبداً، «والعكس هو المستبعد» واستكمال خطة التهجير من القطاع، ومن الضفة الغربية، وتبدأ بتدمير المخيمات، وإجبار مئات الآلاف من سكانها على «الهروب» منها نحو المدن والبلدات الفلسطينية المجاورة لها، وبحيث يصبح الضمّ المباشر واحداً من بنود جدول الأعمال ما بعد انتهاء هذه الحرب الدموية والإجرامية.
وفي هذا السياق نفسه، ليس مستبعداً أن يكون نتنياهو قد عقد عدة صفقات «داخلية» مع كل من بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير للتهدئة أثناء هذه الحرب، وفي سياقها انتظاراً لاستكمال الخطة ضد الضفة والقطاع، وضد الأهل في الداخل الفلسطيني، إن لم يكن من أجل تحقيق الأهداف الحقيقية من هذه الحرب، فلا أقلّ من أجل إعادة خلط الأوراق في كلّ الإقليم، وخصوصاً إذا تعثّرت هذه الأهداف.
لا يوجد سبب منطقي واحد يفسّر انقلاب الولايات المتحدة على مقترحاتها، بعد أن ذهبت واستصدرت قراراً من مجلس الأمن للتأكيد عليها سوى أنّ صفقة عقدتها هذه الإدارة مع نتنياهو.
هذه الصفقة لم تعقدها أميركا لسواد عيون نتنياهو، وإنّما من أجل دورها ومكانتها في الإقليم.
والمسألة بكلّ بساطة أن انتصار المقاومة في القطاع من خلال منع دولة الاحتلال من تحقيق أهدافها، وتشويش صورة «الانتصار» التي حاولت الخروج بها، وصمود «محور المقاومة»، وبقاء هذا «المحور» سيفاً مسلّطاً على رقبة دولة الاحتلال، وعلى وجود القوات العسكرية الأميركية في كلّ من سورية والعراق وتهديد هذا الوجود هو الذي يفسّر ويشرح ويوضّح معالم هذه الصفقة.
بدأت هذه الخطة بالتعثّر لمجرّد أن فصائل المقاومة في القطاع انتبهت جيداً لكلّ هذه المناورات الخبيثة، وسارعت إلى رفض هذا «التماهي» التام بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي، وكذلك انتبه «محور المقاومة»، للاستهدافات التي تقف وراء هذه المناورات، وهو بات يدرك تماماً خلفية ونوايا، وأساليب الخداع التي تمارسها الولايات المتحدة لاستدراج الإقليم إلى أقرب نقطة من أهدافها.
لكن أهمّ مسألة بات مطلوباً استيعابها أنّ ردود «محور المقاومة» على الاغتيالات، والتي يمكن أن تصل بالجولة العسكرية القادمة للتحوّل إلى حرب كبيرة ومفتوحة، وقد تنزلق إلى الحرب الشاملة دون رغبة من أيّ طرف من أطرافها. أهمّ مسألة أنّ دولة الاحتلال بقدر ما ستحاول بالدعم والمساندة الأميركية المباشرة ضرب أهداف حسّاسة، ربما ستبتعد عن ضرب أهداف مدنية مباشرة في كل من إيران ولبنان، ولكنها ستتوحّش أكثر ممّا توحّشت حتى الآن ضد سكّان الضفة، وضدّ الأهل في الداخل الفلسطيني، إضافة إلى محو ما تبقّى من القطاع.
وهنا إذا كانت هذه الحرب القادمة ستتعامل مع مثل هذا المخطّط المرجّح دون أن تربط ما بين التوحُّش الإسرائيلي الجديد، وما بين حتمية الردّ المباشر عليه فإنّ دولة الاحتلال ستعتبر نفسها قد ربحت نصف المعركة، أو نصف الحرب، لأنّها ستكون قد خرجت منها بضمان الإجهاز على البنية المدنية الفلسطينية، كالتي تمّت أثناء النكبة 1948.
إذا لم يُنبّه «محور المقاومة» لهذه المسألة الحسّاسة سنكون أمام خسارة أكبر من أي أرباح، في حين أنّ هذا الانتباه الشديد لهذه المسألة سيوفّر لهذا «المحور» ربح نصف المعركة قبل أن تبدأ.
هذا الكلام برسم «حزب الله» قبل أيّ طرف آخر، وأظنّه ــ أي الحزب ــ يدرك بعمق هذه المسألة، ويعرف بالضبط أهميتها.
ردع دولة الاحتلال يجب أن ينتقل إلى مرحلة جديدة، وهذا النوع من الردع هو الوحيد الذي سيفشل كلّ أهداف هذه الحرب، وسيضعها، ومن خلفها الولايات المتحدة في أكبر مأزق استراتيجي سيؤسّس لمرحلة جديدة قادمة.