لا يمكن لأي كان، سوى من كتب الخطاب، وربما بعض من حوله بعدد لا يتجاوز أصابع يد واحدة، من كان يعلم أو يعتقد يوما لثانية زمنية، بأن يعلن الرئيس محمود عباس ما قاله في الخطاب أمام البرلمان التركي يوم 15 أغسطس 2024، بأنه قرر ومعه "القيادة الفلسطينية – مصطلح اعتباري" التوجه إلى قطاع غزة، طالبا من الأمم المتحدة العمل على مساعدته بذلك.
بعيدا عما جاء في الخطاب من عناوين أخرى، لها وعليها، تتفق تختلف، فتلك ليست الحكاية كونها قائمة مع كل ما يقوله منذ يناير 2005، بعدما بات رئيسا ثانيا للسلطة الفلسطينية أثر قيام دولة العدو وأجهزتها الأمنية باغتيال الخالد المؤسس الرئيس الأول للكيان الأول فوق أرض فلسطين ياسر عرفات 11 نوفمبر 2004.
الجملة الذهبية، كما يحلو للبعض الإعلامي اختزال عبارة مثيرة ما، فيما قاله الرئيس عباس قراره حول الذهاب إلى قطاع غزة، والحقيقة أنها عبارة تستحق كثيرا اهتماما وطنيا وسياسيا، أضعافا مضاعفة مما كان، بما فيه من الإعلام الرسمي الفلسطيني، وكأنها جملة في سياق، وليس قرارا نحو موقف تغييري لمشهد كآبته السياسية وصلت لذروتها.
وافتراضا، وبعيدا عما نالها من سخرية يمكن وصفها بأنها "قلة أدب سياسي" مصابة بفقر دم وطني، فالجملة العباسية لها أن تقود نحو خلق مسار سياسي كامل، يعيد الاعتبار للتمثيل الوطني الفلسطيني، أداة تقف ناهضة أمام مشروعي "البديل" في قطاع غزة بدعم أطراف لم تعد مجهولة، والتهويد المنطلق بسرعة قياسية في الضفة والقدس، وصل إلى المساس المباشر بالمقدس الوطني في المسجد الأقصى وساحة البراق.
ليس صعبا أبدا، تنفيذ ما قاله الرئيس محمود عباس، ويمكنه من الغد أن يبدأ نقل مقر قيادته من المقاطعة في رام الله، التي تنتهك يوميا تحت سمع الجميع من قبل جيش العدو الاحلالي، ويذهب إلى مدينة رفح عبر مطار العريش لتصبح مقره التمثيلي لقيادة بقايا المشهد السياسي في قطاع غزة.
مشهد وصول الرئيس عباس إلى رفح، ومعه من يريد من "مسؤولي فصائل" بوزن شعبي أو فقدته منذ زمن، لن يكون مشهدا إعلاميا فحسب، بل سيكون "حدثا سياسيا" يعيد الاعتبار الوطني لما تآكل من "شرعية التمثيل" طوال سنوات "الردة الوطنية" منذ عام 2006 وحتى تاريخه، رغم كل تضحيات تم دفعها ومكاسب كيانية تم الحصول عليها في الأمم المتحدة واعتراف عالمي غير مسبوق توازيا مع حراك الجنائية الدولية والعدل الدولية.
قد لا تسمح دولة الاحتلال، التي تسيطر على مدينة رفح ومعبرها الفلسطيني للرئيس عباس و"صحبه السياسي" من دخول قطاع غزة، لاعتبارات متعددة، منها أنها تعمل على "دفن الشرعية الفلسطينية" في الضفة وقطاع غزة"، وبدأت تشكيل أداتها لليوم التالي خالية من جين بلدي أصيل، لكنها بقار المنع ستمنحه فرصة لم تأت كثيرا منذ يونيو 2007، ليقيم مقره الرئاسي – القيادي في "خيمة نزوح" كبيرة أمام معبر رفح، بالتنسيق الكامل مع الشقيقة مصر.
إقامة مقر الرئاسة الفلسطينية مقابل معبر رفح، سيكون رصاصة انطلاقة تحديث الرسمية الفلسطينية وتجديد شرعيتها التي تآكل دورها وحضورها إلى حد التلاشي، وبات مسماهما يتردد هامشيا، لصالح غيرها قوى وأطرافا ومحور، بعيدا عن محاولات بعضهم "تدليس الحقيقة السياسية".
"خيمة مقر الرئاسة الفلسطينية" في رفح، وممارسة العمل اليومي ومجمل الاتصالات منها، سيكون "سيفا" لقطع دابر كل مشاريع "اللقيط السياسي"، الذي يتم اعداده في مطبخ بدولة الكيان ومشاركة طهاة بمسميات عدة، وقاطرة نحو رفع قيمة الممثل الرسمي، الذي أصيب بكل أمراض الشلل السياسي – الوطني، عاجزا إلى حد بات "الترحم عليه قريبا".
ما قبل انطلاق المواجهة الكبرى، أثر قيام الفاشي شارون باقتحام المسجد الأقصى يوم 28 سبتمبر 2000، نصح كثيرون الخالد ياسر عرفات بأن لا يستقر في رام الله، والبقاء في قطاع غزة أو يغادر إلى الخارج في رحلات سفر طويلة، لأن هدف دولة العدو وأجهزتها الأمنية العمل للتخلص منه، واغتياله بكل السبل، وتلك كانت رسالة واضحة بعد رفضه تهويد المسجد الأقصى وساحة البراق، لكنه تجاهل كل ذلك واختار قيادة أطول معركة وأكثرها إيلاما لدولة العدو من مقره بالمقاطعة في رام الله، من 2000- إلى نوفمبر 2004 حتى تمكنوا من جسده اغتيالا.
مثال استذكاره للدلالة بأن القضية الوطنية تستحق فعلا يتوافق وقيمتها التاريخية، ولذا يمكن للرئيس عباس أن يقدم الكثير بخطوة الانتقال من مقر محاصر في رام الله، إلى مقر أكثر حرية أمام باب حماية الكيان الوطني الأول في قطاع غزة.
تنفيذ الرئيس عباس وعده الذهاب إلى رفح ينقله من واقع مكسور الفعل لواقع منطلق الفعل.. وعدم تنفيذه سينقله أيضا من واقع النسيان الوطني لواقع الاندثار الوطني.. فلا منطقة وسطى بينهما.. القرار له وخيار الحكم لشعب فلسطين عليه.