لقد كشفت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، كما لم يحدث من قبل، ليس فقط الطبيعة الفاشية لإسرائيل كدولة، وحسب، بل كشفت كون إسرائيل ليست عدواً للشعب الفلسطيني فقط، ولا أنها دولة تناصب كل من يقف في طريق طموحها التوسعي في الشرق الأوسط من دول وشعوب وأنظمة وتنظيمات، فقط، بل انها دولة عدو للمجتمع الدولي، بقوانينه وأخلاقه، بل وبشكل صريح عدو للمنظمات الدولية، بما في ذلك القضاء الدولي ومنظمات الإغاثة وحقوق الإنسان، بل ومجمل منظمة الأمم المتحدة، جملة وتفصيلاً.
والحقيقة أن إسرائيل انكشفت خلال حربها الإجرامية المتواصلة على فلسطين عموماً وعلى قطاع غزة على نحو أشد ضراوة منذ أكثر من تسعة اشهر، كما لم يحدث معها من قبل، وذلك لأسباب عديدة، أهمها سببان، أحدهما له علاقة بها، أي بتكوينها حيث وصلت الى ذروة التطرف اليميني والعنصرية، مع تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، التي توجت حكومات يمينية منذ ثلاثة عقود، كان هدفها هو قطع الطريق على الحل السياسي الذي توافَق عليه الفلسطينيون وبعض الإسرائيليين، الذين كان يمثلهم اليسار بقيادة حزب العمل الذي أسس إسرائيل وقادها لثلاثة عقود تلت عام اعلان الدولة، حتى وصل نتنياهو بالتحديد بالشراكة مع إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش الى الإفصاح علناً عن طبيعتهم الفاشية، النافية تماماً للآخر الفلسطيني، والتي لا تقبل له ولا حتى بحكمإاداري ذاتي، أما السبب الآخر فله علاقة بالجانب المقابل، أي بالجانب الفلسطيني، حيث ظهر للإسرائيليين بأن الحالة الفلسطينية قد تعمقت على طريق الانقسام، وأن البطش بقطاع غزة المحكوم من قبل حماس، سيمر، خاصة وأن حماس أطارت صواب إسرائيل بعملية طوفان الأقصى، ثم بما واجهتها به حتى الآن من مقاومة وصمود.
وإسرائيل وهي محكومة من قبل أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخها، بدأت الحرب في اطار وعلى طريق حرب الإبادة الجماعية، بعد أن أرفق وزير الدفاع يوآف غالانت اعلان الحرب بقطع الماء والدواء والغذاء والاتصالات عن كل سكان قطاع غزة، ثم تخلل الهجوم ارتكاب جرائم الحرب مكتملة الأركان، خاصة وأن هذه الحرب تجري على صورة البث المباشر والمتواصل، في ظل ثورة الاتصالات، التي جعلت من كل مواطن مراسلاً صحافياً، بحيث تابعت أكثر من محطة فضائية تفاصيل الحرب لحظة بلحظة، أي لم يكن بمقدور مجرمي الحرب إخفاء جرائمهم، ولهذا فإنهم ووجهوا بالتقارير الطبيعية للعديد من منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات الإغاثة، خاصة التابعة للأمم المتحدة، ولأن مهمة الأمم المتحدة الأولى والأساسية هي محاولة منع الحروب، خاصة منها تلك التي ترتكب فيها جرائم الحرب، فكان من الطبيعي أن تظهر مواقف المنظمات المختلفة التابعة للأمم المتحدة بما في ذلك موظفوها رفيعو المستوى، وفي مقدمتهم الأمين العام انطونيو غوتيريش، الذي واصل إدانة والتصدي للحرب الإسرائيلية منذ البداية، لذلك فقد أثار حنق الإسرائيليين وفي مقدمتهم جلعاد أردان مندوبهم السابق في الأمم المتحدة، الذي لم يتردد أكثر من مرة في وصف غوتيريش بالمعادي للسامية، كذلك وصف الإسرائيليون أكثر من مرة الأمم المتحدة بالمنظمة الفاسدة والمعادية للسامية.
والحقيقة أن الأمم المتحدة لم تستند في اعلانها أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب، تصل لمستوى حرب الإبادة، للتقارير فقط، ولا لقصف المستشفيات والمدارس والمنازل السكينة، ولا لقتل المدنيين يوميا بالمئات، لدرجة مسح عائلات من السجل المدني، ولكن لأنها أيضا بموظفيها ومنشآتها ومدارسها كانت هدفاً دائماً للقصف الإسرائيلي المباشر والمتعمد، وقد قضى المئات من موظفي الأمم المتحدة، كذلك قضى بأدوات القتل المباشر والمتعمد الإسرائيلي الكثير من عمال الإغاثة الدولية، بمن في ذلك موظفو المطبخ الدولي، والأمم المتحدة لا تلقي الكلام ولا تعلن المواقف جزافا، وهي بيت جامع للعالم، وهي حتى تخضع بدرجات ما للنفوذ الأميركي وبالتالي الإسرائيلي، ويقيناً لو أن دولة أخرى غير إسرائيل ارتكبت ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة والضفة الفلسطينية والقدس، لتم طردها فورا من المنظمة الدولية باعتبارها دولة لا تستحق أن تكون عضوا في الأسرة الدولية.
ومنظمات الأمم المتحدة منظمات احترافية، كل في مجالها، والأهم بالطبع محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، التي هي محاكم قضائية تماما، بل هي أرقى مؤسسات للقضاء في العالم، وإسرائيل نفسها تجاهلت قرار محكمة العدل الذي طالبها بتجنب كل ما من شأنه أن يثير الشك بارتكابها حرب الإبادة الجماعية، كممارسة حرب التجويع، ومنع إدخال مواد الإغاثة، واستهداف المدنيين بالقصف وإلقاء القنابل ذات الأوزان التي تعد بالأطنان، وفي مجموعها تعادل بضع قنابل نووية، كذلك طالبت الأمم المتحدة بجمعيتها العمومية أكثر من مرة، وبمجلس أمنها إسرائيل بوقف الحرب فوراً، دون أن تستجيب إسرائيل، ولا حتى ازاء مطالبتها بعدم شن الحرب على رفح، آخر معاقل النازحين، الذين ما زالت تجبرهم إسرائيل على النزوح المتواصل مرة بعد أخرى، وقد وصل الجنون الإسرائيلي ذروته عبر إقرار لجنة في الكنيست اعتبار واحدة من أهم مؤسسات الأمم المتحدة، «الأونروا» وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي رافقت الشعب الفلسطيني منذ النكبة وحتى اليوم، منظمة إرهابية !
واذا كان الاعتراف سيد الأدلة، فإن ما يقوله القادة والجنود الإسرائيليون، والذين بعضهم يقوم بتوثيق ما يرتكبه من جرائم قصف وقتل للمدنيين، للتباهي، ما يثبت بأن إسرائيل جملة وتفصيلا غارقة في حرب الإبادة الجماعية، ومتورطة في جرائم الحرب وفي الجرائم ضد الإنسانية، وأنها باتت عدوة للإنسانية، وقد نشر موقع «محادثة محلية» الإلكتروني قبل أيام إفادات الجنود الإسرائيليين المشاركين في الحرب ضد قطاع غزة، تضمنت تلك الإفادات أن عمليات الجيش تمنح الجنود إطلاق النار عشوائياً، واطلاق النار على جسد أي شخص يقترب وعلى الجميع أطفالاً ومسنين، والجنود يعتبرون أن لا أحد بريء، حيث لم يهرب، ويعتبر جنود جيش القتل كل من هم من الرجال ما بين 16_50 عاما مشتبهين بالإرهاب .
والحقيقة أن قادة الجيش الإسرائيلي يظهرون فاشيتهم وهم يتبجحون، بمن فيهم غالانت، الذي يتباهى بما أحدثه جيشه من دمار وقتل في قطاع غزة، وهو يهدد حزب الله، قائلا بأنه سيفعل بلبنان ما فعله بغزة، وأنه في حال اندلعت الحرب بينهما، أو في حال لم يتراجع الحزب مسافة 8 كم عن الحدود، أو الى ما وراء الليطاني، فإن إسرائيل ستعيد لبنان الى العصر الحجري.
واليوم لم يعد خطر إسرائيل محصوراً بفلسطين، ولا على ارتكابها جرائم القتل الجماعي ولا التدمير، إضافة الى مصادرة حقوق الفلسطينيين الوطنية وفي مقدمتها الوحدة ما بين الضفة وغزة، والحرية والاستقلال، ولا على تشبثها باحتلال كل أرض دولة فلسطين، بل إن تمادي إسرائيل عزز بداخلها التطرف اليميني المنكر للحقوق الطبيعية الإنسانية للشعب الفلسطيني، ومن ثم انسحب الشعور العرقي بالتفوق والتمييز، الى مواصلة السير على طريق التطاول على الغير في كل الشرق الأوسط، ثم ها هي إسرائيل تجد نفسها غير منسجمة مع المجتمع الدولي بأسره.
لكن بريق الأمل يلوح في الأفق، وبالطبع من خارج إسرائيل، فضحايا غزة قد استصرخوا ضمائر الناخبين في الغرب، فحدث انقلاب غير مسبوق منذ 14 عاماً في بريطانيا، كذلك أطلق الناخب الفرنسي وقبل عشرة أيام فقط من جولة الانتخابات التشريعية الثانية الجبهة الشعبية لتتفوق على كل من معسكري الرئيس ماكرون واليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان، لتنفتح الآفاق امام تغيير في مواقف لندن وباريس تجاه ما يحدث. وهكذا وكما توقعنا منذ بدء الحرب بأن قدر غزة سيكون مثل قدر لينينغراد، أن تعيد تغيير العالم بحيث يصبح أكثر عدلاً ومساواة، وأقل سطوة من قبل القوى العظمى على الشعوب الضعيفة، وأول خطوة نحو ذلك بالتأكيد رفع الظلم الواقع على فلسطين منذ 80 سنة، وإنهاء أسوأ وأطول احتلال خارجي لأرض شعب آخر ومنعه من إقامة دولته المستقلة.