- قصف مدفعي إسرائيلي على حي الزيتون جنوب شرقي مدينة غزة
- صفارات الإنذار تدوي في صفد وبلدات في الجليل الأعلى عقب رصد إطلاق صواريخ
من خلال مُتابعتي لوسائل الإعلام الإسرائيلية بقدر ما يُتاح منها من ترجمات ومتابعات، ومن وثائق ودراسات، ومن تقارير صحافية، أيضاً، أستطيع أن أقول بكلّ ثقة، وبكلّ راحة ضمير، إنّ الغالبية الساحقة من هذه الوسائل هي شريك فعلي ومباشر في كلّ جرائم الحرب التي ارتكبتها دولة الاحتلال في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية، أيضاً.
بعض هذه الوسائل "وفرسانها" لم يتغيّر عليها شيء يذكر، ما زالت تكرّر نفس السياسة الإعلامية التي شهدناها في الأيام الأولى لـ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، ليس باعتبار أنّ التاريخ كلّه في هذا الإقليم قد بدأ منذ ذلك اليوم المشهود فقط، وليس باعتبار أنّ كل القطاع، وكل بقعة في الضفة وعلى مدى عقود كاملة كانت إما تحت حصار خانق، أو استباحة منفلتة من سوائب المستوطنين، واعتقالات يومية، وتنكيل بوسائل لا يمكن حصرها بالعنصرية فقط، وإنّما بأبعد من ذلك بكثير، وخصوصاً في مجال علم النفس وأمراضه المتعدّدة من الانفصام والسادية والوسواس القهري، وغيرها من رؤية "الذات" كحالة خاصة خارج نطاق باقي البشر في هذه المعمورة، وكذلك النظر إلى هذه الذات باستعلاء وعنجهية، والنظر إلى الآخر بازدراء وكراهية يصعب تحديد مصدرها.
بالنسبة لهذا النوع من وسائل الإعلام فقد كان "طوفان الأقصى" هو لتأكيد "المؤكّد"، وهو الدليل "السّاطع" على صحّة هذه السياسات، وعلى الذهاب بعيداً، وبأبعد ما يمكن للغوص "السعيد" في تلك الأمراض.
هناك وسائل إعلام أخرى انساقت في الأشهر الأولى من هذه الحرب الإجرامية مع "التيّار" العام، ولم تتمكن من تمييز نفسها عن هذا التيار الجارف إلا نادراً، وبصورة أقرب إلى الحالات الفردية منها إلى تلمّس سياسات جديدة.
بعض وسائل الإعلام من هذا المستوى بدأت ببعض المراجعات السياساتية ليس بدوافع إنسانية أو نتيجة صحوة ضمير وإنما وأساساً بدوافع "الخوف" أو ربما القلق من تحطّم صورة الاحتلال ليس إلا.
وبعضها الآخر بدأ بهذه "المراجعة" بسبب الإخفاقات العسكرية الإسرائيلية، وبسبب اقتران الحرب على القطاع، وعلى الضفة بالحرب في جنوب لبنان، والتهجير الجماعي الكبير الذي شهدته المستوطنات الإسرائيلية المتاخمة لجنوب لبنان والخسائر الاقتصادية الكبيرة التي مُني بها قطاعا الزراعة والسياحة، والشلل الذي أصاب بعض الصناعات، بما فيها صناعات الـ"هاي تك"، وهروب الشركات، ورؤوس الأموال، والمغادرات الجماعية دون عودة تحديداً من هذه المنطقة في إطار الهجرة المعاكسة التي طالت سكان الجنوب وسكان الوسط بصورة كبيرة.
وعلى مستوى الإعلام المرئي والمسموع، فقد تعرض المجتمع الإسرائيلي إلى أكبر عملية "دجل وتدليس" عرفها أي مجتمع في العصر الحديث، وقد تفوقت الوسائل الإسرائيلية على كل مهازل الإعلام "الغربي" في نقل صورة لا تمّت لواقع الحرب بأي صلة حقيقية.
دعونا نتصور مستوى الخسّة والانحطاط الأخلاقي الذي وصلت إليه هذه الوسائل، وعلى مدار تسعة أشهر بالتمام والكمال حتى الآن والمُشاهد الإسرائيلي لم تُتَح له ولا فرصة واحدة لمشاهدة مناظر قتل الأطفال والنساء، ومناظر إجبار عشرات الآلاف على النزوح القسري تحت "طائلة" الموت الفوري، ثم قتل هؤلاء النازحين في أماكن الإيواء التي كانت قوات الاحتلال تجبر المدنيين على التوجّه إليها بصورة محددة في بيانات جيش الإجرام.
مئات آلاف الإسرائيليين، وربما ملايين منهم إمّا أنهم لم يشاهدوا، ولم يسمعوا بكل ما كان العالم كلّه يشاهده على الهواء مباشرة، أو أنّهم شاهدوا واستمعوا دون أن يحرّك ذلك شيئاً فيهم، أو ربما لم يصدقوا أنّ شيئاً كهذا يمكن أن يقوم به جيشهم!
هناك ما أُسمّيه بالتبلّد الإنساني لدى أوسع القطاعات في المجتمع الإسرائيلي، ومن المؤكّد أنّ جزءاً من هذا التبلّد عائد إلى أفكار مسبقة، نابعة من طبيعة الفكر الصهيوني المهيمن على الثقافة والسياسة في دولة الاحتلال، إلا أنّ تفاقم هذا الجانب يعود برأيي إلى أنّ هذا المجتمع قد خضع في العقدين الأخيرين على أقلّ تقدير إلى عملية ممنهجة من غسل الدماغ في ضوء سيطرة الأيديولوجيا "اليمينية"، بما فيها الأيديولوجيا الفاشية على معظم وسائل الإعلام.
كانت الحرب الروسية الأوكرانية قد كشفت مثل هذه العمليات المتواصلة للحقن الإعلامي، والسيطرة الكاملة على أدقّ تفاصيل ما يُقال، وما يُنشر، وما يتمّ الترويج له، وما يتمّ التهريج حوله، إلا أنّ الحالة الإسرائيلية تعتبر بكلّ المقاييس حالة تفوقت على "الغرب" بدرجات، خصوصاً أنّ المراكز المالية التابعة مباشرة للأوساط الأكثر توحّشاً في صفوف "الليبرالية" الإسرائيلية قد اشترت وسيطرت على معظم وسائل الإعلام في دولة الاحتلال.
المرعب أنّ مركّبات السياسة، ومناكفات القوى والأحزاب السياسية هي السبب الأوّل والمباشر للكشف الذي يتمّ عن بعض "البلاوي" التي تعكس أخسّ درجات الاستهتار بأرواح الأبرياء، وأحطّ ما يمكن للمرء أن يصل إليه من السقوط الأخلاقي.
فقد أوضح أحد المواقع المتخصصة، واسمه (محادثة داخلية)، ونقله الزميل وائل عوّاد، وهو عبارة عن توثيق لشهادات جنود جناة ومجرمين كانوا طوال هذه الحرب الدموية في القطاع، وأنصح كلّ متابع للتعرف على تفاصيل هذه الاعترافات، لأنّها ليست مجرّد وثائق يمكن أن تدين دولة الاحتلال بصورة لا تقبل الجدل أو الشكّ، وإنّما تعكس أساساً ما ذهبنا إليه من الحقد والكراهية والعنصرية التي أوصلت جنود الاحتلال إلى هذا الدرك الإنساني المرعب.
يقول الجنود، إنهم كانوا يقتلون بهدف القتل نفسه، وإطلاق النار على المدنيين ليس بحاجة إلى أي إذن أو تصريح، ومثل النساء والأطفال لمجرّد أنّهم تواجدوا بالصدفة في منطقة تم العدوان عليها من هؤلاء الجنود كان من الروتين اليومي المستمر، وقتل من يستسلم من المدنيين يتم بكل "تسامح" من الضباط.
أما إحراق المنازل بعد قتل كل من فيها فقد كان يتم بتلذّذ خاص من قبل الضباط أنفسهم.
أمّا "فضائح" البطولات لهؤلاء الجنود فهي لا تُعدّ ولا تُحصى، بما في ذلك أنّ هؤلاء الجنود كانوا وما زالوا يعتبرون قتل المدنيين في الشوارع، وأثناء "النزوح"، أو وهم يرفعون أيديهم هو جزء من "الإنجازات" العسكرية للجيش، وكانت القيادات العسكرية تصنّف هؤلاء المدنيين في إطار "المخرّبين"، ومن "قوات النخبة"، ويضافون إلى السجلّات الرسمية لكونهم مقاتلين تابعين للمنظمات الإرهابية.
لا يقتصر الأمر على الجنود، فإنّ حادثة إطلاق سراح الطبيب الفلسطيني مدير مجمع الشفاء وما تبعها من "مناقشات" مفتوحة في كل وسائل الإعلام الإسرائيلية باعتبارها جريمة سياسية كبيرة، هذه الحادثة أظهرت أنّ هناك من يتشفّى ويتلذّذ بقتل الأطفال والنساء، واعتقال الأطباء دون سبب وتعمّد قتل الصحافيين هو من قبيل الشعور الطبيعي عند هؤلاء الجناة.
لا أريد أن يفهم أحد أنّني أُعمّم بصورة قصدية، أو أنني أنكر عشرات من الإعلاميين الإسرائيليين، والمحلّلين السياسيين، والصحافيين الذين أنصفوا مهنة الصحافة وكانت لهم أدوار بطولية حقاً في الدفاع عن حقوق شعبنا، وفي رؤية الجانب الإنساني الذي تم انتهاكه بصورة مقصودة ومتعمّدة، بل إنني أرى في هؤلاء قدوةً إنسانية، وأرى في شجاعة ما قالوا ويقولون، وما كتبوا ويكتبون وينقلون مثالاً للشرف والرقيّ الأخلاقي والسموّ الإنساني.. فإلى كلّ هؤلاء نرفع القبّعة، ونعبّر عن امتناننا لهم واعتزازنا بهم.
ويبقى السؤال: ماذا عن دورنا؛ ماذا فعلنا نحن مَن نعتبر أنفسنا من صنّاع الرأي العام، ومن المحاربين على جبهة البحث عن الحقيقة؟
ألا يعكس هذا الواقع في المجتمع الإسرائيلي تصوّراً خطيراً في نوعية الأداء السياسي والفكري الثقافي لنا جميعاً؟
وهل يمكن أن ينتصر شعبنا، ويحقّق ما يصبو إليه من أهداف، وما يطالب به من حقوق بمعزلٍ تامّ عن رأي ودور وفعل المجتمع الإسرائيلي؟
هل كان الجزائري على خطأ عندما راهن "دون أن يتوقّف لحظةً واحدة من الكفاح" على دعم الشارع الفرنسي لهذا الكفاح؟
أليس هو هذا ما فعله الفيتناميون في النهاية؟
هي أسئلة معلّقة نرجو ألا تظلّ كذلك حتى لا يصيبنا نحن، أيضاً، التبلّد الإنساني الذي أشرت إليه.