ما الذي فعلته وتفعله إسرائيل بغزة؟ حرب؟ إنها ليست كذلك بل أبعد كثيرا عما دار في كل حروب التاريخ، تقاتل حماس؟ الأمر ليس كذلك فخمسة عشر ألف طفل شهيد وعشرة آلاف شهيدة من النساء تفضح ذلك الشعار، وإذا كانت تخوض معاركها ضد مقاتلي حركة حماس لماذا يتم تدمير 80% من بيوت قطاع غزة ولم تنته الحرب بعد.
إن حجم القوة التدميرية التي استخدمتها إسرائيل في قطاع غزة والتي تعادل عدة قنابل نووية تثير أمراً أكبر من الحرب وهو ما أشار له نتنياهو في البدايات حين قال: «ينبغي تغيير وعي سكان غزة».
هذا هو بيت قصيد الإبادة التي تتم صناعتها في غزة وقد أشار نتنياهو لتجربتي ألمانيا واليابان، وفي تصريح آخر وصف حركة حماس بـ «النازية» كان يعرف ماذا يقول.
إذا كانت الحرب ضد الطغمة العسكرية اليابانية التي سميت «الفاشية» لماذا ضربت واشنطن مدينتين يابانيتين بالقنابل النووية بفارق ثلاثة أيام أحرقت فيها البشر والأطفال وكل شيء ولا زالت الذاكرة ماثلة في التاريخ الياباني الحزين ... وإذا كانت قوات آيزنهاور التي هبطت في النورماندي لهزيمة هتلر وإنهاء حكمه لماذا قتلت طائراته في ليلة واحدة في مدينة درسدن الألمانية ما يقارب الـ 40 ألفا معظمهم من النساء والأطفال؟
تعرضت اليابان وألمانيا إلى عمليات إبادة ساحقة، بالأحرى تعرض الشعبان الألماني والياباني لها، فماذا كانت النتيجة؟ لقد أحدث ذلك تغيراً هائلاً في الوعي القائم في الدولتين كلتيهما، لقد كرهت اليابان الحكم العسكري وللأبد بل اعتبرته أسوأ مراحل تاريخها الذي لن تكرره، أما ألمانيا فقد أصبح أدولف هتلر لعنة في تاريخها لدرجة الخوف من ذكر اسمه، صديقي في ذلك البلد حين يهاتفني يسميه «أبو السعيد» حتى لا تضبط أجهزة الرقابة اسمه على المكالمات.
هكذا الأمر فقد طوت برلين صفحته التي اعتبرتها الأكثر سوادا في تاريخها.
كل الترويع الذي حدث هناك كان عبارة عن عمليات كي وعي الشعوب، وقد نجحت لأن تلك الشعوب ساهمت بشكل أو بآخر في إنتاج تلك النظم، فقد انتخب الألمان هتلر للمستشارية العام 1933 وخلال ست سنوات كان يعلن الحرب على أوروبا، وكانت الحرب تقتلع الثقافة التي جاءت به وليس جيشه الكبير فقط.
إشارة نتنياهو في الأسبوع الأول للحرب لتلك البلاد كانت تشي بأننا أمام عملية سحق تتجاوز مدينتين تم ضربهما بالقنابل النووية وأمام تجسيد لدرسدن وقد حدث، فشكل هذه الحرب مختلف لأن ضرب المدنيين كان أكثر وضوحاً من المعارك العسكرية والمقاتلين والمأساة الإنسانية كانت فاقعة، وصمت العالم يشبه صمته منتصف أربعينيات القرن الماضي أمام المأساة التي خلدتها الذاكرة البشرية.
في غزة يتم تعذيب الناس يوميا، تم تهجيرهم من الشمال لرفح ومن رفح عودة لخان يونس ومنها للنصيرات ثم عودة لمواصي رفح ولم تنته الرحلة بعد، فالناس تهرب هنا ثم تعود ثم ترحل، وهناك بعضها نزح أكثر من عشر مرات، الجميع بلا استقرار مع عمليات إبادة وقتل جماعي ومناخ شديد القسوة في الشريط الساحلي مرتفع الحرارة تزيده الرطوبة حد التعذيب في خيام بلاستيكية تضاعف درجات الحرارة حيث التعرق وعدم القدرة على الاستحمام.
التفاصيل مرعبة يرويها سكان غزة من تجويع وترويع وملاحقة وقتل وعدم استقرار وفقدان الأهل والأحبة والبيت والعمل والمدرسة والجامعة وصنبور الماء والكهرباء والذكريات.
كل ذلك لم يكن يشي بحرب عادية وقتال مجموعة مسلحة قامت بضرب إسرائيل بل جعل الناس يعيدون تحت وقع الصدمة والخوف والعذاب التفكير بكل ما يحدث في الصراع مع إسرائيل، وأهمها الموقف من حركة حماس الذي بدأ يظهر أن الجزء الأكبر من سكان القطاع يأخذون منها موقفاً به قدر كبير من النظرة السلبية «قيادة حماس تعرف ذلك وأكثر».
هذا هو الهدف الأول لعملية الإبادة، والنقاش الدائر فلسطينيا والمنقسم بين الداعمين للحرب وحركة حماس من هم خارج قطاع غزة وخارج العذاب والثمن المدفوع ورحلة الموت اليومي وردود من يتعرضون لها في غزة لا تعكس انقساما اعتاد الفلسطينيون عليه بأشكال مختلفة، ولكنها تعكس وعياً آخذاً بالتغير تجاه تجربة حركة حماس في المنطقة التي تجسدت فيها تلك التجربة.
ولسوء حظ الحركة أن الحرب جاءت وسط انقسام فلسطيني حاد كانت حماس جزءا منه. لكن هذه الحرب وأسبابها جعلت الجزء التي يتعرض للعذاب ناقما عليها ويعبر عن نقمته على وسائل التواصل الاجتماعي.
كأن إسرائيل قد حققت هذا القدر من تغيير الوعي بالقطاع وهو هدف كبير مستندة لتجارب التاريخ المكثفة التي لم تقرأها حركة حماس قبل الإقدام على عملية السابع من أكتوبر بهذا الحجم، فلا هي عملية صغيرة تكبل إسرائيل من الذهاب بعيدا، ولا هي عملية كبيرة تمنع إسرائيل من الوقوف على أقدامها لتضرب بوحشية، ولم تقدر قوة إسرائيل ومخازن السلاح الدولية التي تنفتح أمامها لتبدو بنظر الغزيين أنها نبشت عش الدبابير ليتوفر لإسرائيل فرصة للقيام بعملية إبادة جماعية ورحلات لا تنتهي من التعذيب لمن بقوا نصف أحياء ... للإبادة أهداف تتجاوز الانتقام، ضربت البنية التحتية في القطاع لكنها كانت تستهدف البنية الفوقية ...!