- طيران الاحتلال يشن غارتين على الضاحية الجنوبية في بيروت
ما قبل حرب إسرائيل في غزة ليس كما بعدها، تلك هي المسألة الأساسية التي باتت تحكم الوضع الفلسطيني، وتوجهات الأطراف الدولية والعربية المعنية أو الفاعلة، في شأن مستقبل التمثيل والكيانية والحركة الوطنية الفلسطينية، وبالطبع فإن تلك العبارة تشمل أيضا إسرائيل، وشكل العلاقات بينها وبين الأطراف العربية وطبيعة النظام الإقليمي.
مشكلة الفلسطينيين بعد الحرب أنهم الطرف الأكثر ضعفا وتأثرا وخسارة، فهم في حالة نكبة غير مسبوقة، إذ تم تدمير مجتمعهم في غزة، وتجريف عمرانهم عبر التاريخ، وهما أمران لا يمكن تعويضهما في المدى المنظور، بخاصة مع وضع مليوني فلسطيني في حالة كارثية، بكل معنى الكلمة مع فقدانهم البيت وفرص العمل والموارد. هذا دون أن نتحدث عن محاولة إسرائيل خلق واقع يدفع مئات ألوف الغزيين للتشرد، بإخراجهم من غزة، بطريقة أو بأخرى.
في السياق ذاته، يمكن ملاحظة أن فلسطينيي الضفة الغربية باتوا في دائرة تهديدات خطيرة، في ظل السياسات التي تنتهجها إسرائيل، وسلوكيات المستوطنين المتطرفين العدوانية، الذين باتوا يشتغلون كميليشيا مسلحة برعاية الدولة، في حين تتآكل مكانة فلسطينيي 48 "المواطنين" في إسرائيل، في ظل سياسات حكومة اليمين القومي والديني المتطرف ضدهم، والتي تسلبهم حقوقهم الفردية والجمعية، المدنية والوطنية.
كل ما تقدم يؤكد أن إسرائيل توخّت، عبر حربها ضد فلسطينيي غزة، وبحجة هجوم "حماس" في عملية "طوفان الأقصى" (يوم 7 أكتوبر 2023)، إخضاع الشعب الفلسطيني من النهر إلى البحر، وفرض هيمنتها عليهم نهائيا، باعتبارها هذا الظرف بمثابة فرصة سانحة لها للتخلص نهائيا من فكرة الدولة الفلسطينية، وفصل الضفة عن غزة وعن القدس، بعد أن تم تقويض "اتفاق أوسلو" (1993)، جملة وتفصيلا، خلال الثلاثين سنة الماضية.
بين "حماس"... و"السلطة"... و"المنظمة"
بنظرة واقعية، فإن عالم ما بعد تلك الحرب سيكون، على الأرجح، مختلفا جدا، بالنسبة لحال الكيانات السياسية الفلسطينية، إذ ستخرج "حماس"، كحركة وكسلطة، مثخنة بالجراح، على صعيد البنية والمكانة والتمثيل، مع تعذر التكهن بالشكل الذي ستؤول إليه، إذ لا يوجد طرف عربي ولا دولي يريد لها البقاء في صدارة المشهد الفلسطيني، والباقي تفاصيل. بغض النظر عن رأينا في طبيعة تلك الحركة أو دورها، أو استراتيجيتها السياسية أو الكفاحية، سلبا أو إيجابا.
في المقابل، فإن القيادة الفلسطينية، وهي قيادة "المنظمة" و"فتح" و"السلطة" (في الضفة)، ورغم أنها خسرت من صدقيتها وشعبيتها، على ضوء تآكل دورها ومكانتها في تلك الحرب، وفي تفاعلاتها الشعبية والرسمية، فإنها تحرص على تأهيل أو تكييف ذاتها، مع معادلات ما بعد الحرب، خاصة أن الأقدار لعبت بشكل معاكس، وماكر، إذ جعلتها بمثابة عنوان للأطراف الدولية والعربية، لكن فقط للحؤول دون إحداث فراغ سياسي فلسطيني، وضمنه الحؤول دون تورط إسرائيل أكثر في القطاع، بإغلاق شهيتها لمعاودة احتلال غزة، والحؤول دون توفير فرصة لـ"حماس" لاستعادة مكانتها كسلطة فيها، ما يفسر مسارعة القيادة الفلسطينية لتشكيل حكومة "تكنوقراط"، استجابة للأطروحات الدولية والعربية.
على ذلك، فإن مسألة التمثيل التي كانت واحدة من أهم المسائل التي تصدت لها الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ قيامها (منتصف الستينات)، والتي استطاعت انتزاعها (أواسط السبعينات)، بالاعتراف العربي والدولي بـ"منظمة التحرير"، تطرح نفسها اليوم بالحدة ذاتها التي كانت عليها من قبل، مع ملاحظة أن ذلك لم يحصل، وقتها، إلا بعد تماهي تلك "المنظمة" مع الشرعية العربية والدولية، بتبنيها فكرة إقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة 1967.
ولعل ما يميز طرح تلك المسألة في الظروف الحالية، قياسا بالظروف السابقة، أولا، أن التمثيل الفلسطيني اليوم لا يقتضي الاستحواذ على شرعية شعبية فقط، وتلك أساسية طبعا، علما أن كل الكيانات الفلسطينية السائدة منقوصة الشرعية، بعد تجربة عمرها قرابة ستة عقود، إذ إن شرعية تمثيل الفلسطينيين باتت تقتضي، أيضا، الاستحواذ على الاعتراف الدولي والعربي بالكيان الذي يفترض أن يمثلهم، وحدوده السياسية والجغرافية، أكثر مما كان عليه الأمر في منتصف السبعينات.
ثانيا، تبرز مسألة التمثيل، في هذه المرحلة، كواحدة من التداعيات الكارثية، الناجمة عن حرب غزة المدمرة، في حين تم سابقا انتزاع الاعتراف بالتمثيل لـ"المنظمة" بعد عشرة أعوام على انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى خلفية نهوض فلسطيني، بينما الواقع اليوم مختلف، لذا فإن الأطراف الخارجية تبدو أكثر فاعلية في التقرير بهذا الأمر، بالقياس للفلسطينيين، وعلى حسابهم. ثالثا، ما يفاقم من صعوبة التقرير في شأن التمثيل، حال الاختلاف والانقسام بين الكيانات السياسية الفلسطينية، وتحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى "سلطة" (تحت الاحتلال)، وبحكم تهميش "منظمة التحرير" وانحسار دورها ومكانتها التمثيلية.
رابعا، تلعب إسرائيل دورا كبيرا، لم يكن متاحا لها من قبل، فالحركة الوطنية الفلسطينية باتت بمثابة "سلطة" في الضفة وغزة، لكن تحت سلطة إسرائيل، الأمنية والاقتصادية والإدارية، على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، لذا فهي تتحكم في سيناريوهات، تتأسس على خلق واقع فصل بين الضفة وغزة، بمحاولة فرض إدارة إسرائيلية للقطاع، مع احتلال أو من دونه، أو الدفع بتشكيل حكومة مقربة منها- تكنوقراط، أو ذات طابع عشائري ومناطقي- كما يأتي ضمن ذلك سيناريو فرض قوات دولية أو عربية أو مختلطة.
معضلة التمثيل الفلسطيني تاريخيا
الهم الآن أن الشرعية الفلسطينية برمتها باتت رهينة المداخلات الدولية والإقليمية، بعد عقود من الكفاح من أجل القرار الوطني الفلسطيني المستقل، فـ"المنظمة" مهمشة، وتفتقد الشرعية الدستورية أو السياسية أو الثورية، التي لم تفعل قيادتها شيئا لترميمها طوال العقود السابقة، في حين أن "السلطة" باتت في أقصى حالات ضعفها في الضفة، وأضحت غائبة في غزة، التي باتت مدمرة، وغير صالحة للعيش، وبات شعبها يفتقد للقمة العيش والمأوى والبني التحتية، أي إن الفلسطينيين يعيشون اليوم في الداخل على هامش الشروط الدولية والعربية.
ومعلوم أن الفلسطينيين، وبغض النظر عن شعاراتهم ورغباتهم ومبالغاتهم، ظلوا في مختلف المراحل في الداخل والخارج محكومين للتجاذبات والمحاور والسياسات الإقليمية والدولية، بحكم الغياب التاريخي للبعد الكياني السياسي عندهم، وافتقادهم لإقليم مستقل، وبواقع تشظي مجتمعهم، وخضوعهم لأوضاع وأولويات متفاوتة ومختلفة، ولاعتمادهم في مواردهم على المعونات والمساعدات الخارجية، في زمن المقاومة والتسوية والمفاوضة و"السلطة"، مع الأخذ في الاعتبار دأب إسرائيل على تهميش الوضع الفلسطيني وإضعافه، إذ ليس لها مصلحة في بروز كيانية سياسية، تعبر عن الشخصية الوطنية للفلسطينيين، لأن تمظهر أي كيان لهم، بالنسبة لها، سيأتي على حسابها.
ويمكن التأريخ لبداية التدخل الرسمي العربي المقرر في شأن التمثيل الفلسطيني بمؤتمر القمة العربي الذي عقد في أنشاص (مصر- مايو/أيار 1945)، ففي حينه تم التوافق على تشكيل كيان يمثل الفلسطينيين وينطق باسمهم، هو "الهيئة العربية العليا"، التي أعلن عنها لاحقا، في مؤتمر للجامعة العربية، عقد في بلودان (سوريا- يونيو/حزيران 1946).
وفي ذلك فإن تلك الهيئة لم تتشكل نتيجة توافق الأحزاب الفلسطينية التي كانت سائدة حينها (العربي والدفاع والاستقلال والإصلاح والكتلة الوطنية والشباب)، وإنما نتيجة التدخلات والضغوطات العربية التي حاولت وضع حد لخلافات الفلسطينيين وانقسامهم (بعد ثورة 1936-1939)، بين الزعامتين الحسينية (نسبة للحاج أمين الحسيني زعيم "اللجنة العربية العليا"، والحزب العربي)، والنشاشيبية (نسبة لراغب النشاشيبي زعيم "الجبهة العربية العليا"، وحزب الدفاع).
بعدها قامت جامعة الدول العربية، بإعلان الإدارة المدنية في فلسطين (يوليو/تموز 1948)؛ بغض النظر عن رضا القيادة الفلسطينية حينها (الهيئة العربية العليا)، وهي لم يكتب لها النجاح، بسبب تطور الأوضاع للأسوأ. وفي حينه تم تشكيل "حكومة عموم فلسطين"، التي نشأت عن المؤتمر الوطني في غزة (سبتمبر/أيلول 1948)، بدعم عربي، لكنها لم تعمر كثيرا، بسبب الاختلاف بشأنها بين أطراف النظام العربي، وعدم تمكينها من القيام بمهامها في إقليمها (على الأقل في الضفة وقطاع غزة)، إذ تم إتباع الضفة للأردن ووضعت غزة تحت الإدارة المصرية.
بعد النكبة، تم تشكيل "منظمة التحرير الفلسطينية" (1964) بقرار من مؤتمر القمة العربية أيضا، ولعبت مصر دورا كبيرا في تشكيل لجنتها التنفيذية الأولى، كما لعبت دورا كبيرا في نقل قيادتها إثر حرب يونيو/حزيران 1967، من أحمد الشقيري والشخصيات المستقلة، إلى الفصائل المقاتلة بزعامة ياسر عرفات وحركته (فتح)، وصولا إلى اعتبار "المنظمة" بمثابة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في قمة الرباط (1974).
الجدير ذكره في هذا المجال أن ثمة بندا متضمنا في ملحق ميثاق جامعة الدول (1945) ينص على أنه "في ظروف فلسطين الخاصة، وإلى أن يتمتع هذا القطر بممارسة استقلاله فعلا، يتولى مجلس الجامعة أمر اختيار مندوب عربي من فلسطين للاشتراك في أعماله". وهو ما تم تأكيده بقرار صادر عن الدورة الثالثة للجامعة (30/3/1946) الذي نص على أن "اختيار مندوبين عن فلسطين من حق المجلس وحده". وهذا يعني أن ثمة نوعا من مرجعية في الوصاية على التمثيل الفلسطيني، إنْ على صعيد النص، أو على صعيد التجربة السياسية.
مما تقدم يمكن الاستنتاج بأن النظام الرسمي العربي هو أحد أهم مصادر الشرعية للحركة الوطنية وللكيانية السياسية للفلسطينيين، إن لم يكن أهمها في ظروفهم الخاصة. إذ يصعب على أي طرف من أطرافها التحرك، أو التطور، بمعزل عن حصوله على هذا النوع من الشرعية. وينبثق من ذلك إدراك دور البعد الفلسطيني في تقرير الخيارات السياسية، فخيار التسوية والتحرير والمفاوضة والمقاومة والكفاح المسلح، ليس مجرد خيار فلسطيني، على أهمية هذا البعد.
مع ذلك ينبغي ملاحظة أن الشرعية الفلسطينية في المرحلة الحالية لم تعد تقتصر على قبول النظام الرسمي العربي، وإنما باتت بحاجة أيضا إلى شرعية دولية. وفي الحقيقة فكلما ضعف الفلسطينيون، وكلما انقسموا على أنفسهم، احتاجوا إلى الشرعية المتأتية من خارجهم، وهذا يرجع إلى العوار العضوي الكامن في كياناتهم السياسية، التي تعتمد على الخارج، أكثر مما تعتمد على شعبها، والتي تعيش على الشعارات أكثر مما تعيش في الواقع، والتي تتوخى التماثل مع الوضعين الدولي والعربي بدل التماثل مع أولويات شعبها وقضيته.