قرار الرئيس الأمريكي بتعليق تسليم إسرائيل شحنة من الأسلحة الدقيقة أو الذكية، قنابل زنة 2000 رطل (حوالي 907 كيلوغرام)، والتي استخدمت لتدمير مربعات سكنية كاملة ومحوها عن الأرض، وفي عمليات التدمير الواسعة في كل أنحاء القطاع، بعد العملية التي قام بها نتنياهو بالسيطرة على القسم الشرقي من مدينة رفح في السابع من الشهر الجاري، وترحيل مئات آلاف المواطنين، في جولة نزوح جديدة الى منطقة المواصي وخانيونس، وبعد أن سيطر جيش نتنياهو على معبر رفح من الجهة الفلسطينية. تلك العملية التي اعتبرتها أمريكا، والتي اعتقد جازما أنها جاءت نتاج توافق أمريكي - إسرائيلي، حيث أعلن بايدن (يوم 8 أيار) بأن العملية بحدودها الحالية لا تشكل انتهاكا للخطوط الحمراء الامريكية، ولن تمس بالأمن القومي المصري، وقد حظيت بدعم مجلس الحرب الاسرائيلي، الذي يدعم أغلبه صفقة تبادل الأسرى.
تأجيل تسليم أمريكا لهذه الشحنة من القذائف الدقيقة، والتي اعترفت الإدارة الأمريكية بأنها استخدمت في قتل المدنيين في قطاع غزة، أثار حالة من الجدل والتوتر والغضب والصخب على الساحة السياسية والحزبية الإسرائيلية، وصلت حد اتهام هذه الإدارة بأنها تتخلى عن أمن اسرائيل وحمايتها و"حقها في الدفاع عن نفسها"، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن المتطرفة تالي غوتليف، عضو الكنيست عن الليكود، وبشكل وقح قالت، بأن تأخير تسليم أمريكا لهذه الشحنة، يجعل إسرائيل تستخدم أسلحتها غير الذكية، وبدل هدم منزل سيتم هدم عشرة منازل، في حين قال الصهيوني القومي بن غفير، بأن حماس وأمريكا "حبايب"، مما حدا برئيس دولة الإحتلال يتسحاق هيرتسوغ، لان يقول بأنه يجب الإبتعاد عن التصريحات التوتيرية والمسيئة للعلاقة مع أمريكا. وكذلك ظهرت تصريحات تقول، بأننا سنجتاح رفح لوحدنا إذا رفضت أمريكا مساعدتنا، وسنثبت بأن إسرائيل مستقلة في سياستها، وما يخص مصالحها وأمنها، وبأنها ليست النجمة الـ 51 في العلم الأمريكي، وأكثر من ذلك فرئيس وزراء إسرائيل بعنجهيته المعهودة، صرح مساء الخميس الماضي معلقاً على تعليق أمريكا تسليم إسرائيل شحنة القذائف الدقيقة في مقطع فيديو، قال فيه: "نحن عشية الاستقلال" . في "حرب الاستقلال قبل 76 عاماً، كنا قليلين مقابل كثيرين. لم تكن لدينا أسلحة، وكان هناك حظر على الأسلحة على إسرائيل، ولكن بعظمة الروح والشجاعة والوحدة في داخلنا - انتصرنا. اليوم نحن أقوى بكثير. نحن مصممون ومتحدون على هزيمة عدونا".
وأضاف: "إذا كان علينا أن نقف وحدنا، فسوف نقف وحدنا. لقد قلت بالفعل أننا إذا اضطررنا إلى ذلك، فسوف نقاتل بأظافرنا. ولكن لدينا أكثر من مجرد أظافر".
مثل هذه الأكاذيب و"العنتريات" الفارغة ظهرت عارية، عندما أعلنت إيران بأنها سترد مباشرة على قصف قنصليتها في دمشق، حيث هرعت إسرائيل تستنجد بأمريكا ودول الغرب الاستعماري والعديد من الدول العربية الوظيفية، من أجل حمايتها وتولي الدفاع عنها.
تصوير البعض ممن يسمون أنفسهم بالمحللين السياسيين والخبراء العسكريين الاستراتيجيين، بأن هذه الخطوة الأمريكية تؤشر إلى تدهور العلاقات الأمريكية - الاسرائيلية، وبأن هذه الخلافات قد تصل إلى المس بثوابتها الإستراتيجية في العلاقة الثابتة بين الطرفين، والتي تحددها الدولة العميقة ولا مجال للمس بها، دعم عسكري ومالي متواصلين، وحماية قانونية وسياسية في المؤسسات الدولية، بما يشمل التهديد بوقف تمويلها ودعمها وفرض عقوبات على أعضائها، وتوجيه التهديدات لهم، كما حصل في تهديد قضاة محكمة الجنايات الدولية، إذا ما صدروا أوامر اعتقال بحق قادة إسرائيل. يثبت بأن هؤلاء المحلليين والخبراء الاستراتيجيين والعسكريين، حالهم حال فضائياتهم الذين يركزون على الدعاية والتهريج الإعلامي، بعيداً عن التحليلات والقراءات المستندة للواقع بلغة لينين، التحليل الملموس للواقع الملموس.
الخطوة الأمريكية هذه، أتت أولا لحاجة سياسية خاصة بالرئيس الأمريكي والحزب الديمقراطي، فـ"الانتفاضة الطلابية" التي اجتاحت الجامعات الأمريكية وانتقلت الى الجامعات الأوروبية، والتي تقول بتغيير كبير في رؤية وتفكير ومواقف الطلبة الأمريكيين والأوروربيين، الذين يطالبون بوقف الحرب على قطاع غزة، ووقف المشاركة الأمريكية فيها، ووقف تزويد إسرائيل بالسلاح، يمس بشكل كبير بحظوظ بايدن في الفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، أي خطوة باتجاه التهدئة الداخلية وزيارة شعبيته ورصيده الانتخابي المتراجع. وأيضاً هذه الذخائر ليست للاستخدام في القطاع، بل موجهة لجبهات أخرى وخاصة الجبهة الشمالية، وحسب قول السفير الاسرائيلي السابق لدى واشنطن داني أيالون، فإن هذه الخطوة جاءت للضغط على نتنياهو للتجاوب مع المطالب الأمريكية وأولوياتها، بالحسم لليوم التالي لتوقف الحرب، وبما ينسجم مع رؤية بايدن للتطبيع مع السعودية وبناء حلف أمني معاد لإيران، وبما يقلل من نفوذ الصين وروسيا في السعودية.
"تخوف" اسرائيل من قرار الإدارة الأمريكية، نابع من الخوف، ليس من احتمالية عدم تزويد أمريكا لإسرائيل بتلك القذائف الدقيقة، بل من أن تحذو حذوها العديد من الدول الأوروبية، بما يعمق من أزمة إسرائيل وعزلتها على الصعيد العالمي سياسياً واقتصادياً، وصولا لمنع تصدير السلاح إليها، فأمريكا منذ 7 اكتوبر زودت إسرائيل بشحنات أسلحة وذخائر وقذائف وطائرات هجومية ودبابات وآليات وقطع غيار وبنادق هجومية عبر جسر جوي وبحري بلغ 370 شحنة بالطائرات و 65 شحنة بالسفن.
واضح بعد احتلال معبر رفح، ووصول المفاوضات حول اتمام صفقة تبادل الأسرى إلى طريق مسدود، فإن الأمور ستزيد وتعمق من حدة الأزمات والانقسامات داخل دولة الإحتلال، فهناك توجهات عند غانتس وايزنكوت بالانسحاب من حكومة الطوارىء، وكذلك فإن أهالي الأسرى الذين هددوا بحرق الدولة، وبحشد مليون متظاهر في الشوارع والساحات سيصعدون من احتجاجاتهم ودعواتهم لإقالة نتنياهو وفك حكومته وإجراء انتخابات سياسية عامة، وسترتفع حدة المواجهات بين المتظاهرين وقوات الجيش والأمن الإسرائيلي، بما قد يضع إسرائيل على أبواب حرب أهلية وانقسام عمودي في المجتمع الإسرائيلي.