من بعد عملية ال 7 من اكتوبر، والتي ردت عليها " اسرائيل" بما اسمته بعملية " السيوف الحديدية"، والتي خرجت لتنفيذها لتحقيق مجموعة من الأهداف الإستراتيجية المتطرفة الموجهة للداخل " الإسرائيلي"، القضاء على المقاومة الفلسطينية وفي القلب منها حركة حماس، وتدمير قدرات المقاومة العسكرية والتسليحية والأنفاق الهجومية، واغتيال قادتها العسكريين والسياسيين او اعتقالهم، وإنهاء حركة حماس كحكم وسلطة، وإستعادة اسراها عسكريين ومدنيين عند المقاومة دون تفاوض، وإقامة منطقة جغرافية عازلة محمية أمنياً، توفر الأمن لمستوطنات غلاف غزة، و"هندسة "ديمغرافيا" قطاع غزة، عبر طرد وتهجير نسبة 25% من سكان قطاع غزة الى خارج حدوده الجغرافية، وصولاً الى الهدف الإستراتيجي " الإسرائيلي"- الأمريكي الأكبر،اعادة رسم خرائط المنطقة وتشكلها من جديد، بما يضمن قيام ما يعرف بالشرق الأوسط الكبير.
المرحلة الأولى من الحرب التي استخدمت فيها " اسرائيل" كل فائض قوتها وأحدث ترسانتها العسكرية، بالقصف الجوي والبري والبحري، وبقوة تدميرية غير مسبوقة، بإستخدام القنابل الخارقة للتحصينات والقادرة على مسح مربعات سكنية كاملة عن وجه الأرض، وكذلك الصواريخ الموجهة والدقيقة، وبعقلية ثأرية إنتقامية، وبما يمكنها من تدمير قدرات المقاومة واضعافها الى أقصى حد ممكن، تمهيداً لعملية برية سمتها المناورة البرية، التي ستنهي المقاومة، وتفرض على القطاع احتلال عسكري طويل الأمد، وسلطة روابط قرى مطورة من شخصيات ومخاتير وعشائر وغيرها.
بعد المرحلة الأولى من العدوان، والتي استمرت 48 يوماً ،سقطت اولى أهداف العدوان، والمتمثلة برفض التفاوض مع المقاومة حول استعادة الأسرى، وكسرت المقاومة هذه الإستراتيجية، ودخلت" اسرائيل" معها في مفاوضات في إطار الندية، وعبر هدن متقطعة، تحرر خلالها 240 من الأطفال والنساء الفلسطينيات من سجون الإحتلال، مقابل 80 أسير" اسرائيلي" مدني ومن أصحاب الجنسيات المزدوجة، ولتستأنف"اسرائيل"عدوانها المسمى بالمناورة البرية،بكل أشكال وحشيته،بإستخدام قوة نارية غير مسبوقة ...وانتقلت في عمليتها من شمال قطاع غزة الى وسطها وجنوبها وصولاً الى معركة رفح،وهذه العملية التي كان يراهن نتنياهو ومجلس حربه ومعهم أمريكا ودول الغرب الإستعماري والعديد من دول النظام الرسمي العربي المنهار، بأنها يمكن لها ان تحقق اهدافها خلال شهرين او ثلاثة على ابعد تقدير، ولكن من خلال سير العمليات،اتضح بأن هذه الأهداف،ليست قابلة للتحقيق خلال تلك المدة، وبات من الواضح من خلال شراسة المقاومة الفلسطينية وما سجلته من مقاومة بطولية،مع صمود اسطوري للحاضنة الشعبية، رغم كل الدمار لكل ما له علاقة بالبنى والهياكل والقطاعات والمؤسسات المدنية والمنازل،بأن جيش هذا الإحتلال،كلما أوغل في رمال غزة ومستنقعها،كلما ارتفعت حجم خسائره جنوداً وضباط ومعدات عسكرية، وزاد التمرد في رفض الخدمة العسكرية وسحبت ألوية وكتائب من الميدان،مثل جولاني وجفعاتي وغيرها،واستمر نتنياهو ومجلس حربه وقادته العسكريين يتحدثون عن النصر،وتحقيق الأهداف،وبعض قادة الإحتلال امنيين وعسكريين أقروا بالفشل، وبأن هناك نصر تكتيكي تحقق ولكن هناك هزيمة على المستوى الإستراتيجي،وبأن هدف القضاء على حركة حماس والتخلص منها ومن حكمها غير واقعي، فهي فكرة متجذرة في صفوف الشعب، وليس بناية تهدم او نفق يدمر، وبقي نتنياهو يبحث عن نصر أو صورة نصر أو انجاز عسكري أو ميداني،يمكنه من تسويقه للداخل "الإسرائيلي" واهالي الأسرى الذين ترتفع وتيرة إحتجاجاتهم، ولكن كل جهود نتنياهو، وما قام به من قتل وتدمير لم يحقق له مبتغاه،ولترتفع الإنتقادات والمطالبات له بتقديم استقالته ورحيله ،واجراء انتخبات تبكيرية سياسية سادسة،تحمله مسؤولية الفشل الأمني والإستخباري والهزيمة التي لحقت بجيشه في السابع من اكتوبر،ووصل الأمر الى حد وصف حكومته بأنها الأسوء في تاريخ " اسرائيل"،وبعدم وجود قيادة سياسة لدولة " اسرائيل"،لم تعرفها منذ 50 عاماً،وكبار المعلقين العسكريين والقادة الأمنيين والعسكريين الحاليين والسابقيين، قالوا بان مجموعة من المهووسين يقودون هذه الدولة نحو الكارثة.
نتنياهو الباحث عما يسميه ب" الإنتصار الساحق"،الذي لم يتحقق ولو بصورة نصر،ربط مصيره بمصير اقتحام مدينة رفح ،التي يتكدس فيها مليون ونصف مواطن،جزء كبير منهم نزحوا من شمال ووسط وجنوب قطاع غزة، ولذلك ظل يعاند الميدان والسياسة والمفاوضات والمجتمع الدولي،رافضاً الإقرار بالهزيمة ...وكيف سيعترف بهزيمة من شأنها أن تدمر مستقبله السياسي والشخصي، وتبقيه لسنوات خلف قضبان السجن، متهما ومداناً، ليس فقط بالتهم المنظورة ضد أمام القضاء" الإسرائيلي"،الرشوة وسوء الإئتمان وخيانة الأمانة،بل وتحميله مسؤولية الفشل الأمني والإستخباري في السابع من اكتوبر وما لحق بجيشه من هزيمة، ولذلك بقي هاجسه مصالحه ومستقبله السياسي والشخصي فوق المصالح "القومية" ل"اسرائيل"،وهذا لن يتأتي سوى عن توسيع نطاق الحرب والعدوان خارج حدود قطاع غزة الجغرافية، لكي يخلط الأوراق وتضيع المساءلة والمحاسبة، وحاول التحرش بإيران من اجل هذه الغاية والهدف، بإستهداف قنصليتها في دمشق، وما نتج عنها قتل ل 7 من قادة حرسها الثوري، هذه العملية استوجبت رداً ايرانياً واسعاً بالمسيرات والصواريخ الباليستية والتي طالت مقر الإستخبارات الذي اتخذ فيه قرار شن الغارة على القنصلية الإيرانية، قاعدة "نفطاليم" والمطار القريب منها "رامون" الذي انطلقت منه طائرات "أف 35" لمهاجمة القنصلية، هذا الرد الإيراني وضع" اسرائيل" في حجمها الطبيعي،وبأنها النجمة 51 في العلم الأمريكي، وغير قادرة على مجابهة ايران لوحدها، وبأنه بعد الرد الإيراني الذي فرض قواعد ردع ومعادلات اشتباك جديدة، إنتقلت قوة الردع لإيران، ومن هنا ظل نتنياهو مسكوناً بهاجس مستقبله السياسي والشخصي و"فوبيا" حماس ومقولة " النصر الساحق" في رفح ، ولتأتي عملية رفح بعد مصادقة مجلس الحرب " الإسرائيلي" عليها، وتوافق "اسرائيلي"- أمريكي على محدوديتها وإنتقائية اهدافها، مترافقة بموافقة المقاومة الفلسطينية وفي قلبها حماس على المقترح المصري- القطري المعدل لوقف إطلاق النار وصفقة تبادل الأسرى،وأيضاً بموافقة مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية " وليم بيرنز" على تلك الصفقة، التي تؤكد على ترابط مراحل الحل،بحيث تؤدي صفقة تبادل الأسرى الى إنهاء حالة الحرب وفك الحصار والإنسحاب الكامل من القطاع واعادة الإعمار،هذه الموافقة على صفقة تبادل الأسرى،من قبل المقاومة الفلسطينية، احدثت حالة من الإرباك والتخبط في داخل حكومة الإحتلال وفي مجلس حربها المصغر، ونزلت كالصاعقة على رأس نتنياهو، ووضعته بين خيارات صعبة، يصعب الجمع بينها، فهو لا يريد ان يظهر أمام اهالي الأسرى والمجتمع "الإسرائيلي" بأنه يرفض إستعادة الأٍسرى أحياء، وبالمقابل لا يستطيع خيانة شركائه من الفاشية اليهودية، بعدم القيام بعملية اقتحام رفح، وخيارات نتنياهو الصعبة، ربما تدفع نحو إنقسام عمودي في المجتمع " الإسرائيلي"، والوقوف على اعتاب حرب أهلية، إذا لم يوافق على صفقة إعادة الأسرى، وهو يعتقد بأن الذهاب الى معركة رفح، قد يقربه من تحقيق هذا الهدف، متوهماً بأن الضغط على المقاومة، قد يدفع الى استعادة الأسرى بدون مفاوضات، او هذا الإقتحام قد يجبر المقاومة على تخفيض سقف توقعاتها وإشتراطاتها.
نتنياهو ومجلس حربه شنوا هذه العملية العسكرية على رفح، والتي لا تعرف أبعادها ومداياتها، ولكن الأرجح أنها عملية محدودة، جرى التوافق عليها مع امريكا، بحيث يجري تجنب قتل أعداد كبيرة من المدنيين وتقليل حجم تدمير البنى والهياكل والمؤسسات والقطاعات المدنية، وهناك مجموعة اهداف سعى نتنياهو لتحقيقها من هذه العملية، أنه ربط مصيره ومستقبله بالذهاب لمعركة رفح، وبالتالي قد يحصل على صورة نصر يحملها لشركائه من الصهيونية الدينية والقومية، يجعلهم لا يشكلون هاجس مستمر وتهديد له بإسقاط حكومته، وهدف أخر أراده نتنياهو من هذه العملية، أنها قد تدفع المقاومة الفلسطينية لتجميد المفاوضات بشأن تبادل الأسرى أو الإنسحاب منها، وبما يمكنه من استمرار حربه وتوسيع دائرته، لكي يطيل أمد حكومته، ولا ننسى بأن نتنياهو وحكومته يخططون من أجل السيطرة على معبر رفح، وعزل قطاع غزة والتحكم في طرقاته، وقطع تواصله الجغرافي والديمغرافي مع الضفة الغربية والداخل الفلسطيني- 48.
في اعتقادي الجازم بأن "اسرائيل" التي فشلت طيلة سبعة أشهر في تحقيق أهداف عدوانها على غزة وكان وضعها العسكريّ والسياسي والدعم الدولي لصالحها بشكل أكبر بكثير مما هو عليه الآن، ستجد نفسها اليوم في وضع لا يمكنها من النجاح في عملية رفح، لا بل ستكون في وضع تخسر فيه ورقة رفح وستضطر بعد فترة لا تتعدّى الأسابيع الخمسة مضطرة للتسليم بالعجز والمضطرة للخضوع لضغط الميدان والسياسة والضغط الدولي، وبشكل خاص الأميركي، والإقرار الضمني بأنّ حربها على غزة أخفقت وجلّ ما حققت منها هو ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتدمير الذي قامت به. أما الأهداف الاستراتيجية فقد بقيت بعيدة عن متناول اليد، لذا ستبقى تعوّل على الدور الأميركي لإيجاد المخرج من المأزق وحجب سلبيات العدوان ما أمكن ومنحها القدرات على الاستمرار إذ بدون أميركا لا بقاء لـ «إسرائيل» في الوجود، كما بات مؤكداً… -.