يوماً بعد يوم يتعزز تشارك القضية الفلسطينية بما هي قضية عادلة مع سائر نضالات الشعوب والقوى والحراكات العالمية، ضد الحرب والاحتلال والتطهير العرقي والعنصرية والنهب وتلويث المناخ والهيمنة والاستبداد.
التضامن مع الشعب الفلسطيني تاريخي وكان عنواناً ضمن عناوين كبرى كمناهضة الحرب الفيتنامية، وعزل النظام العنصري في جنوب إفريقيا، وخوض معركة الحقوق المدنية، وحراك «حياة السود مهمة»، وحركة النساء «أنا أيضاً» ضد ترامب.
ودعم حقوق السكان الأصليين في أميركا. ولكن منذ أن تعرض قطاع غزة لحرب إبادة وحشية تصدرت القضية الفلسطينية اهتمام الشعوب والقوى وبخاصة اهتمام قوى التغيير الشبابية الطلابية التي تركت أجيالها السابقة بصماتها الإيجابية في الأحداث والمنعطفات الكبرى.
«أنتم لستم وحدكم» و»لا عدالة في الشرق الأوسط دون عدالة للشعب الفلسطيني» وغيرها، شعارات عبرت عن تضامن ودعم جيل شبابي جديد للحقوق الفلسطينية المشروعة رفعت في جامعات واشنطن وباريس، وطرحت سؤال العدالة وعلاقات القوة والعلاقة مع دولة إسرائيل على بساط البحث.
ولكن منذ حرب الإبادة التي يتعرض لها 2.3 مليون فلسطيني إلى قضية داخلية تتفاعل معها المجتمعات خلافاً لاحتكار الحكومات واعتمادها لسياسات ظالمة تنتمي للعهد الاستعماري البائد وتندرج في باب الهيمنة على الشعوب.
العنصر الجوهري في الاحتجاجات الطلابية والمجتمع المدني، هو الاعتراض على مكانة إسرائيل في منظومة الدول الداعمة لها، بوضعها دولة فوق القانون، لا يجوز نقدها أو تعريضها للمساءلة والمحاسبة والعقاب، حتى عندما تخوض حرب إبادة وحشية وتطهيراً عرقياً كما يحدث الآن في قطاع غزة والضفة الغربية.
وأصبح كل نقد لجرائم الحرب وسرقة الأرض وبناء المستوطنات في أراضٍ محتلة، وكل نضال ضد الاحتلال والاستيطان يندرج في بند العداء للسامية وكراهية اليهود يتعرض ممارسوه للعقاب.
وقد ساهم تغاضي الإدارات الأميركية ودول الغرب عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والسيطرة على شعب آخر بالقوة، إلى استبدال الحل السياسي المعرّف في قرارات الأمم المتحدة، بحل فاشي يشطب الحقوق الفلسطينية المشروعة ويهدد وجود الشعب الفلسطيني.
وجاءت حرب الإبادة في قطاع غزة تعبيراً عن ذلك الحل الفاشي.
حراكات المجتمع المدني وبخاصة الحراك الطلابي، المقترن بصعود يسار جديد، وحركات الدفاع عن الحريات التي تضم يهوداً ومسلمين وعرباً ولاتينيين وسوداً، رفضت حرب الإبادة والحل الفاشي وربطته بالدعم العسكري والاقتصادي والسياسي غير المحدود الذي تقدمه الإدارة الأميركية ودول الغرب لدولة الاحتلال، واعتبرت الحكومات الداعمة للحرب شريكة ومسؤولة عن الجرائم التي ترتكب بحق الأبرياء.
تصدرت الحركة الطلابية المشهد، ونظمت احتجاجات متواصلة ومتصاعدة وحددت أهدافاً واضحة، كوقف الدعم العسكري والمالي والسياسي للحكومة الإسرائيلية من أجل وقف الحرب فوراً، وسحب استثمار الجامعات التي تدعم الحرب وتكرس اضطهاد شعوب أخرى. وعدم استخدام البحث العلمي في الجامعات في صناعة وسائل قتل، ووقف استثمار الجامعات في شركات أسلحة بأهداف ربحية حتى لو كان الهدف تمويل الجامعات، وقطع العلاقة الأكاديمية مع الجامعات الإسرائيلية المؤيدة والداعمة للاحتلال والاستيطان، ورفع الغطاء السياسي عن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الأبرياء وعدم تمكينها من الإفلات من العقاب.
كان حضور المحتجين قوياً ومتصاعداً، وسلمياً باستثناءات قليلة، وقد أخفقت القوى المناهضة له في تنظيم نشاطات بالمستوى المنافس له، كانت كفة الطلاب المحتجين راجحة على كفة الطلاب المؤيدين لإسرائيل.
وأمام تصاعد الاحتجاجات لجأ بعض الإدارات إلى الشرطة لقمع المحتجين ولإزالة خيمهم وإغلاق القاعات التي وجدوا بها، وقد اعتقل أكثر من 2000 طالب وطالبة، وحرم العديد من الطلاب من تقديم الامتحانات، ومورست أشكال من التشهير والتشكيك والضغوط النفسية بهدف وقف الاحتجاجات.
شارك فيها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عندما قارن الطلاب المؤيدين لفلسطين بالنازيين، بالقول إن هذه الإحداث تذكرنا بما حدث في الجامعات الألمانية في الثلاثينيات حين جرى طرد الطلاب وأعضاء هيئة التدريس اليهود من الجامعات»(مقال في هآرتس)، لكن هذا الكاتب الذي يعتبر مقارنة نتنياهو مثيرة للسخرية، يتحدث عن استهداف اليهود وتعرضهم لمضايقات عنيفة في الجامعات، وعن استخدام خطاب كلاسيكي معادٍ للسامية. ومجلس النواب الأميركي يمرر مشروع قانون التوعية بمعاداة السامية بأغلبية 320 صوتاً مقابل 91 صوتاً، يهدف إلى قمع معاداة السامية في الحرم الجامعي، والقضاء على الاحتجاجات المستمرة في الجامعات.
اعتبر المعارضون القانون أنه يهدد بكبح حرية التعبير التي يقرها الدستور.
ونشر رؤساء الجامعات الإسرائيلية رسالة قالوا فيها إنهم منزعجون من عروض العنف ومعاداة السامية والمشاعر المعادية لإسرائيل في الجامعات الأميركية.
مقابل ذلك، كان لشبان منتسبين للديانة اليهودية دور مميز في مناهضة الحرب والتضامن مع الضحايا الفلسطينيين، التجمع اليهودي «ليس باسمنا»، رفع شعار: اليهود يقولون أوقفوا إطلاق النار».
وقال عضو مجلس الشيوخ الأميركي السناتور اليهودي بيرني ساندرز، يجب عدم الخلط بين إدانة القتل في غزة ومعاداة السامية وقال مخاطباً نتنياهو: حكومتك قتلت 34 ألفاً في 6 أشهر الاحتجاج على ذلك ليس معاداة للسامية ولا مناصرة لحركة حماس.
إن جيلاً أميركياً يهودياً جديداً يعيش تحولاً عميقاً عنوانه الانفصال عن الصهيونية والاندماج في المجتمعات التي ينتمون لها.
هؤلاء يفصلون الديانة اليهودية عن الصهيونية، ويعتبرون أن نقد إسرائيل ونقد الصهيونية لا يعتبر عداء للسامية.
هؤلاء يتعرضون للتشويه والابتزاز والإرهاب الفكري، نظراً لدورهم المهم في الحراك وفي تفكيك الرواية الأميركية الإسرائيلية.
في المحصلة، أحدثت الحراكات الطلابية والمجتمعية تغييراً يمكن البناء عليه.
فلا يمكن رؤية المواقف الأميركية والأوروبية الداعية إلى وقف الحرب، وإدخال المساعدات الإنسانية، والاهم اتخاذ قرار ضد تهجير المواطنين الغزيين، بمعزل عن الحراكات الطلابية. ولا يمكن النظر إلى وقف تزويد آلة الحرب الإسرائيلية بنوع من الذخائر، واتخاذ قرارات بمعاقبة مستوطنين، والتلويح بمعاقبة عسكريين إسرائيليين بتهمة ارتكاب جرائم حرب بحق الفلسطينيين، بمعزل عن تلك الحراكات.
هذا التغيير في المواقف محدود لكنه مهم لأنه يرتبط بمراجعة سياسات ومواقف، وبانفتاح داخلي وخارجي يفتح أكثر التابوات المحرمة ويضعها على بساط النقد والتقييم.
والأهم أن التغيير يدمج النضال ضد العنصرية والتوحش، بنضال الشعوب التي تعاني من الاحتلال والاضطهاد والعنصرية، ويبعث على التفاؤل.