أسئلة «ما بعد الصفقة» ليست تلك التي تتعلّق بالنتائج والتبعات والانعكاسات على أطراف الحرب، أو على المعادلات السياسية في مجتمعات هذه الأطراف، أو حتى تلك التي تتعلّق بالتوازنات الإقليمية والدولية التي ستنشأ عن هذه الحرب.
أسئلة «ما بعد الصفقة» يُقصد بها هنا تلك الأسئلة التي تطال مآلات وأبعاد ومصير الكثير من الظواهر التي رافقت مسار هذه الحرب، خصوصاً تلك الظواهر التي تجلّت فيها تحديداً، والتي ميّزتها بصورةٍ نوعية خاصة، ليس عن كافّة الحروب السابقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وإنّما تلك التي انفردت بها هذه الحرب بالمقارنة مع معظم، إن لم نقل كلّ الحروب التي شهدتها البشرية الحديثة والمعاصرة.
جوهر موضوع هذه الأسئلة هو الوعي.
هل نحن أمام ظواهر، على المستوى العالمي، والإقليمي، والمحلّي «الوطني» كمّية جديدة، أم نحن في واقع الأمر أمام ظواهر نوعية على هذه الصُّعُد الثلاثة؟
أقصد، هل الوعي الذي تلازم وترافق مع هذه الحرب التي شنّتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة هو مجرّد حالة تطوُّر «عاديّة»، أو مجرّد درجات معيّنة من الارتقاء في محتوى ومستوى هذا الوعي، أم نحن أمام ظواهر من هذا الوعي يمكن اعتبارها تحوُّلات تاريخية؟
وعلى الرغم من أيّ تطوُّر أو ارتقاء في محتوى ومستوى أيّ «وعي» ينطوي على درجات معيّنة من التطوُّر الكمّي، وأخرى، إلى هذه الدرجة أو تلك وبهذا القدر أو ذاك على أبعادٍ نوعية، أيضاً، إلّا أنّ ثمة فارقاً كبيراً بين ذلك الوعي الذي يتعلّق بهذه الظواهر من زاوية الازدياد والتصاعد أو التنامي، وذلك الوعي الذي يُرسي ويُؤسّس لمراحل جديدة ناجمة عن تلك التحوُّلات التاريخية.
في البعد العالمي لهذا الوعي نلاحظ أنّ الوعي العالمي قد انتقل، في سياق هذه الحرب، من التعاطف الواسع مع الشعب الفلسطيني بمختلف أشكالها الإنسانية والمشاعرية إلى ظواهر نوعية جديدة من الرفض والتمرُّد والإصرار والمثابرة، وصولاً إلى مستويات عالية من التنسيق والتنظيم والمأسسة.
كما نلاحظ أنّ هذا الوعي أصبح يتجذّر في سياق الحرب، خصوصاً بعد السقوط الأخلاقي والمهني المدوّي لقيم «الغرب» ووسائل إعلامه؛ بعد انكشاف زيفه وتحيّزه الأعمى للعدوان وهمجيته في معارك ضارية مع دور وتأثير وسائل التواصل التي أطاحت بعرش وإمبراطورية «الغرب» الإعلامية والثقافية، في تبنّيه للرواية الصهيونية ومقولاتها، وفي ادّعاءاتها الزائفة والكاذبة والتضليلية المفبركة.
ويلاحظ أنّ هذا الوعي قد تميّز بأنّه قد تحوّل في سياق هذه الحرب إلى وعي عابر لِطَيف واسع من الطبقات والفئات الاجتماعية، ولم تعد حركة التضامن في مشهدها العالمي الشامل تقتصر أو تكاد على بعض القوى والحركات التقدمية، والتي كانت تقليدياً تنبري للدفاع عن الشعب الفلسطيني، وحقوقه وأهدافه الوطنية، وإنّما أصبح هذا المشهد عابراً للأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية في معظم بلدان ومجتمعات العالم، ما يبشّر بآفاق واسعة وواعدة لقيام جبهة عالمية ليست أقلّ شأناً من الجبهة العالمية لمناهضة العنصرية و»الأبارتهايد»، التي مكّنت جنوب إفريقيا من الاستناد الكبير إليها في إسقاط النظام العنصري آنذاك، إن لم تكن هذه الجبهة العالمية أكبر شأناً بما يمكن أن تصل إليه.
وتجلّت الظواهر النوعية الكبيرة والجديدة في مشهدية الوعي العالمي بتراجعات كبيرة للدول الغربية المعادية لفلسطين، والداعمة لحرب الإبادة ضدّ الشعب الفلسطيني تحت فظاعة وبشاعة الهمجية الإسرائيلية، وتحت التأثير لحركة التضامن الشعبي الواسع مع عدالة الحق الفلسطيني ومشروعية نضاله التحرُّري.
وقد لاحظنا هنا كيف كانت عليه مواقف كبريات الدول الغربية الأوروبية، والدولة الأميركية في بدايات الحرب، وعدوانيتها السافرة ضدّ حركات التضامن، ثم كيف تمّ «التراجع» المتلاحق لهذه الدول عند التهديدات التي أطلقتها ضدّ كلّ من يتضامن مع الشعب الفلسطيني، حتى وإن كانت هذه التراجعات مؤقّتة أو جزئية أو تكتيكية أمام نبض الشارع.
ولعلّ انتفاضة الجامعات الأميركية وامتدادها إلى كل القارّات هي التعبير الأسطع والأوسع عن الظواهر النوعية في المشهد العالمي على مستوى الوعي الجديد.
إنّ ما أطلق عليه «ربيع الجامعات الأميركية» هو بكلّ المقاييس أرقى وأعلى حراك تشهده عشرات الجامعات الأميركية، خصوصاً بعد انتشاره في كندا وأستراليا وأوروبا، وفي بلدان أخرى من العالم، وبدأ يتعمّق أفقيّاً وعموديّاً بصورةٍ صادمة للإدارة الأميركية، وكذلك لأوساط متزايدة من الحزب الجمهوري نفسه إلى درجة شنّ هجوم أميركي رسمي مضادّ من قبل وسائل الإعلام وأجهزة الأمن والشرطة.
وأظهر هذا الهجوم أنّ هذا «الإجماع» قد تحوّل إلى تهديد شديد في المدى المباشر، كما أنّه بمثابة تهديد وخطر غير مسبوق على تحالف رأس المال الأميركي كلّه، وذلك بالنظر إلى وصول أصداء هذا الحراك إلى عشرات ملايين البيوت الأميركية، وبالنظر إلى مخاوف تحوّله إلى حركة جماهيرية واسعة تشارك بها نُخب أميركية جديدة، ما يجعل من الانتفاضة الطلابية للمرّة الأولى، منذ «التحالف» الذي أجبر أميركا على التسليم بالهزيمة في فيتنام، خطراً محدقاً وداهماً وقادماً لا محالة.
ومن هذه الزاوية بالذات، فإنّ الهجوم المضادّ تحت وابل من الدعاية الرخيصة والشعارات المبتذلة والبالية، والتي تعاملت مع الحراك الطلّابي وكأنّه موجات من «اللاسامية» أو داعمة لـحركة «حماس»، وليس كهبّة شبابية وطلّابية عميقة الصلة بتحوُّلات نوعية كبيرة في الوعي لدى أوساط شبابية لحقيقة الخطر الذي يمثّله المشروع الصهيوني على العالم، وعلى المجتمع الأميركي نفسه من خلال هذا «التحالف» بين إسرائيل وأميركا.
الخوف الرسمي الأميركي تجاوز «سقوط جو بايدن»، ووصل إلى المخاوف من أن يصبح هذا الجيل، والذي هو حالة نوعية من الشباب المميّز في أرقى وأعرق الجامعات على مستوى العالم كلّه، هو الجيل الذي يُمسك بزمام الأمور، ويؤثّر عميقاً في مؤسّسات الحكم، وهو «إفلاس ديمقراطي» معلن من كلّ مؤسّسات النظام السياسي الأميركي، وحالة انكشاف وافتضاح سافرة للطبقة السياسية في الولايات المتحدة.
الوعي النوعي الجديد في انتفاضة الجامعات الأميركية عرّى هذه الطبقة، ووضعها في وضعٍ لا تُحسد عليه من الارتباك والهلع بعد أن تحوّلت مشاركة الطلّاب «اليهود» إلى أحد معالم هذا الحراك.
الاستماتة الأميركية لإيقاف الحرب الإجرامية على قطاع غزّة، و»الانقلاب» الكبير في مواقف أوروبا الغربية، ليسا سوى الانعكاس المباشر لمدى نوعية الوعي التي نتجت حتى عن هذه الحرب الهمجية.
والحقيقة أنّ الفوارق النوعية بين هذا الحراك وبين الحراك في الجامعات الأميركية في نهايات ستينيات القرن الماضي، هو في أنّ الأسباب الأميركية المباشرة كانت آنذاك المحرّك الأوّل، وهي الحرب في فيتنام، والخسائر الباهظة التي كانت تتكبّدها قوات الغزو الأميركية هناك، والتي وصلت إلى ما يزيد على خمسين ألف قتيل، في حين أنّ هذا الحراك ليس له دوافع أميركية داخلية مباشرة، ولم يسقط حتى ولا جندي أميركي واحد، «من الناحية الرسمية»، ما يعني أنّ الوعي الجديد هو أنّها «الانتفاضة الطلّابية» ستتحوّل إلى ثورة أميركية سياسية عارمة ضدّ الطبقة السياسية الأميركية كلّها في حال دخلت الولايات المتحدة في حربٍ إقليمية شاملة في منطقة إقليم الصراع كلّه.
حتى أقصى «اليمين» في أميركا، وفي أوروبا والعالم أصبحت حساباته الحقيقية تتركّز في التحوُّلات السياسية التي ستشهدها مجتمعات «الغرب» جرّاء استمرار الحرب، وجرّاء مظاهرها الإنسانية التي هزّت الضمير العالمي الحيّ.
بعد أن أوشكت الحرب الهمجية على دخول شهرها الثامن بدأ ينهار «التحالف» الدولي الذي أيّدها، وبالمقابل بدأت تتشكّل معالم واعدة ومبشّرة بقيام تحالف مضادّ، قد يزلزل مكانة الطبقات السياسية في كلّ «الغرب»، ما سيؤدّي إلى تغيّرات نوعية في التوازن الدولي والإقليمي على حدّ سواء.
هذا هو ما يفسّر هذا «الحراك» الرسمي المحموم من قبل أميركا، ومن قبل دول «الغرب» لصدّ هجوم الحراك الشعبي المنظّم، وليس «الشعبوي» الذي تلقّى ضربةً قاصمة مع صعود هذا الوعي الجديد.
هذا ما قصدته من أسئلة «ما بعد الصفقة» بقدر ما أنّ هذه الصفقة هي بمثابة إعلان عن نهاية الحرب.
فهل سينجح «الغرب» في صدّ هجوم الوعي الجديد القادم من الجامعات، ومن مراكز البحوث، ومن فئات متزايدة من النُّخَب «الغربية» الديمقراطية، أم أنّ ذلك سيعتمد على الأداء الفلسطيني في الاستثمار الفعّال لهذا الوعي، وفي الأداء العربي على مستويات مختلفة؟
هنا أتوقّف عند هذه الأسئلة في مستوى ومحتوى الوعي العالمي الجديد؛ لكي أُحاول في مقالات قادمة معالجة هذا الوعي في البعدَين العربي والفلسطيني، وذلك لاستقراء بقدر ما هو ممكن مصير هذا الوعي، ومستقبل التحامه بالوعي العالمي الجديد والفريد، وغير المسبوق أبداً.