«عملية جنين»، كما أحب الإسرائيليون أن يسمّوها، هي واحدة من مسلسل طويل من الغزوات التي طالما شنها الجيش الإسرائيلي على المدن والقرى الفلسطينية. هذا «العلاج» تم استخدامه أكثر من مرة وبجرعات أكبر كل مرة، لكنه لم يحقق لإسرائيل ما تسعى إليه، أي «العيش بسلام»، كما تطالب الفلسطينيين وجيرانها العرب.
تريد إسرائيل أن يتعامل معها الفلسطينيون والعرب على أنها «دولة طبيعية» في المنطقة، متجاهلة أن قيامها ذاته لم يكن «طبيعياً»، وأنها لم تفعل ما كان يمكن أن تفعله لتتعايش مع ذيول ما يسميها الفلسطينيون بحق «النكبة» التي لحقت بهم. على العكس بقيت إسرائيل مصرة على إعادة إنتاج هذه النكبة في وجه أجيال الفلسطينيين المتعاقبة، فتبقى الصور المعلّقة على جدران المخيمات حية في أذهان فتيان فلسطين.
لا أحد من قادة إسرائيل، على الأقل منذ إسحق رابين وخطابه التاريخي في البيت الأبيض عام 1993، عندما مدّ يد المصافحة إلى ياسر عرفات منادياً: «كفى قتلاً... كفى سفكاً لدماء الإسرائيليين والفلسطينيين»، لا أحد في إسرائيل منذ ذلك التاريخ امتلك الشجاعة ليقول للإسرائيليين: مهما قتلنا من أبناء فلسطين، فلن نستطيع أن نقضي عليهم جميعاً. ولا بد أن هناك خياراً آخر مع هؤلاء «الإرهابيين»، إذا وجدوا أن هناك فرصة أخرى متاحة أمامهم، ليعيشوا على ارضهم بكرامة وحرية، وهو خيار العيش معهم جنباً إلى جنب، ومنحهم ما يسمح لهم بطيّ صفحة ما حلّ بأرضهم وقراهم وبلداتهم قبل 75 عاماً.
ولأن لا أحد يملك شجاعة مثل هذا القول في إسرائيل، فالطريق سوف تبقى مسدودة أمام أي حل مقبول لهذا النزاع الطويل والعميق. أجيال تنجب أجيالاً، تحمل مفاتيح البيوت وتحلم بالعودة، لأنها لا تملك حلماً آخر، ولم يقدّم لها أي حلم آخر.
تنازل الفلسطينيون منذ عام 1948 عن 78 في المائة من أرضهم، وقبلوا بدولة على الباقي. وتنازل العرب عن شعارات التصعيد واللاءات، التي رافقت المراحل الأولى من المواجهات مع الدولة العبرية، عندما خُطفت مواجهة إسرائيل من قبل عدد غير قليل من الشعبويين العرب، وتحولت «قضية فلسطين» إلى بضاعة صالحة للمتاجرة في أي مزاد.
وافقت الدول العربية في قمة لها في بيروت على منح السلام فرصة ومنح إسرائيل فرصة، من خلال عرض يقوم على مبادلة انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها، في مقابل تطبيع كامل معها وإقامة علاقات طبيعية مع كل الدول العربية. كيف رد الإسرائيليون على ذلك؟ بحملة على الأراضي الفلسطينية أعقبت قيام رئيس حكومتهم أرييل شارون باقتحام ساحات المسجد الأقصى، ما فجر الانتفاضة الثانية من جنين نفسها، واستمر مسلسل التصعيد منذ ذلك الحين. رئيس حكومة يأتي وآخر يذهب، والمنافسة الوحيدة هي دائماً على من هو الأقدر على تطويع الفلسطينيين وإنهاء «إرهابهم».
ولا شك أن المرحلة الحالية من الحكم في إسرائيل هي الأشد قسوة على الفلسطينيين، لأن قادة هذه المرحلة هم الأكثر عنصرية وتطرفاً. والعنصرية والتطرف كما نعلم، يقضيان على قدرة العقل على العمل، كما يقضيان على احتمالات الحوار والمخارج البديلة. «الحلول» المطروحة على الفلسطينيين اليوم من قبل جماعة بن غفير وسموتريتش وشركائهما، الذين يحمل معظمهم شهادات إدانة قضائية من محاكم إسرائيل، هي تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية وتدمير قراهم و«إزالتها عن الخريطة»، وزرع المستوطنات في «يهودا والسامرة» وصولاً إلى ضمها إلى إسرائيل.
وكل صاحب عقل يعرف أن هذه «الحلول» مستحيلة التحقيق، وقد جربت مثلها قوى دولية أشد قسوة وأكثر تسلحاً، وكانت تحظى بدعم دولي أكثر مما لدى قادة إسرائيل الحاليين، ولكنها فشلت وانهزمت، وانتهى الأمر بمعارضي تلك القوى إلى منصة الحكم.
ليس هذا فقط، بل إن هذه «الحلول» هي المصنع الذي يغذي أفكار التطرف بين الشبان الفلسطينيين الذين لم يبقَ لهم ما يخسرونه، فصاروا ينظرون إلى أي مشروع مهادنة مع إسرائيل، على أنه «خيانة» لأحلامهم، وأخذت نقمتهم تأخذ في طريقها السلطة الفلسطينية نفسها، التي تخسر ثقة شعبها، بعدما خسرت القدرة على تحقيق الحد الأدنى من أحلامه، بسبب السلوك الإسرائيلي القصير النظر.
سلوك إسرائيلي لا يجد من يردعه على الساحة الدولية، وخصوصاً من الولايات المتحدة حليفه الأكبر. هنا تلعب ازدواجية المعايير لعبتها الخطرة ضد كل القيم والمبادئ. الرئيس بايدن الذي يقود حملة في أوكرانيا، وبحق، ضد الغزو الروسي، لا يجد ما يقوله أمام الغزو الإسرائيلي لأراضي الفلسطينيين سوى دعم حق إسرائيل في «الدفاع عن نفسها» ودعوتها إلى «ضبط النفس».
وينتهي «ضبط النفس» بالمشاهد التي تابعناها على الشاشات لتدمير مخيم، كان سبب وجوده في الأساس «ضبط نفس» سابقاً ارتُكب في قرى فلسطين قبل 75 عاماً.
صحيفة الشرق الأوسط