أعترف أنني بخلاف معظم اللبنانيين، ما سُررتُ للعقوبات الأميركية التي نزلت بالنائب والوزير السابق جبران باسيل، وقبله بوزيرين آخرين. وما كان ذلك لأنّ هؤلاء أبرياء من الفساد والاستزلام اللذين نسبتهما الخزانة الأميركية لهم؛ بل لأنّ المتهمين سياسيون لبنانيون، وكان ينبغي أن يخضعوا للمساءلة والمحاسبة من المؤسسات القضائية والإدارية في لبنان، كما هو عليه الأمر في العادة في سائر دول العالم. فالسياسي مؤتمنٌ بحكم عمله على إدارة المال العام. والمال العام في حالة هؤلاء هو مِلْك الشعب اللبناني. وأن يتمكن هؤلاء من الاستمرار في ارتكاباتهم سنوات وسنوات، فهذا يعني تصدعاً في المؤسسة السياسية، والمؤسسات الأُخرى القضائية والإدارية. ولا شكّ أنّ الأميركيين لديهم أهدافٌ سياسية، وليس كراهية للفساد السياسي والمالي وحسْب؛ وهم يصرّحون بذلك ولا يكتمونه، فالسبب السياسي كما يقولون هو الاستزلام من جانب معظم الطبقة السياسية اللبنانية لحزب السلاح غير الشرعي، وتبادُل المنافع معه، على حساب أمن وأموال السواد الأعظم من اللبنانيين، بحيث أدّى ذلك إلى الانهيار الاقتصادي الفظيع، وربما أدّى أيضا (أي ذلك الفساد المشهود والاستزلام) إلى تفجير مرفأ بيروت، ودمار عمرانها، وإصابة سكّانها.
ما يقوله الأميركيون صحيحٌ كلّه، إنما من أين استمدوا الحقّ في التدخل لمكافحة جرائم ما جرت في أميركا، بل في دولة مستقلة هي لبنان؟! هذا هو الأمر الذي يثير السخط والفزع في الوقت نفسه. لكن من جهة ثانية وثالثة: لماذا خضعت الطبقة السياسية لهذه الميليشيا المسلّحة ومكّنتها من رقابها، ولماذا أقبلوا (باستثناءات قليلة) على هذا النهب المستفظع للمال العام، بحيث انفضحوا وهانوا على الناس الكبار والأوساط والصغار! فالذي قاله الأميركيون انتقاء (لائحة العشرين ونيف)، قاله لهم وفي وجوههم الرئيس الفرنسي ماكرون وثلاث مرات: في مرتين في وجوههم في قصر الصنوبر، ومرة في خطابٍ علني بباريس. لقد سُرّ العالم كلّه بثورة الشعب اللبناني في 17 أكتوبر عام 2019، وقد حمل شباب الثورة الشعار الصحيح: كلن يعني كلن! إنما عندما فشلت الثورة في تحقيق أهدافها، وحصل الانهيار وانفجار المرفأ، أتى ماكرون إلى بيروت مُهادِنا للطبقة السياسية المتربعة مع الميليشيا على أعناق اللبنانيين، وطلب من فرقائها الإصغاء لصوت العقل والضمير، والسماح بتشكيل حكومة اختصاصيين تُجري إصلاحات، وتوقِفُ الانهيار، وتمضي للمجتمع الدولي للحصول على مساعداتٍ إنقاذيه. لكن خلال شهرين وثلاثة ما حصل شيءٌ واعدٌ أو مبشّر، فتقدم الأميركيون بتنسيقٍ مع الفرنسيين أو من دون تنسيق، ومضوا لتحقيق ما عجز الثوار عن تحقيقه: قطْع دابر الطبقة السياسية بالعقوبات التي لا تُبقي ولا تذر! وهكذا، ولأنّ الطبقة شعرت بالاستهداف الشامل، فلن تتبرع بتشكيل حكومة من خارجها، بل ستقوم بهجماتٍ انتحارية لحفظ النفس من دون أي اعتبارٍ آخر!
في العام 1919، وقد خرجت ألمانيا من الحرب الأولى خاسرة، تجاوز السوسيولوجي الألماني الكبير ماكس فيبر (1864 -1920) الأسباب العسكرية للخسارة، وألقى بالجامعة محاضرتين: العلم باعتباره حرفة، والسياسة باعتبارها حرفة. قال إن الجيش جيشٌ عظيم، لكنّ العلة في بنية الدولة وصناعة القرار: في العمل السياسي، وفي العمل العلمي. كان يتطلع إلى جامعاتٍ مثل الجامعات الأميركية، وإلى سياسيين محترفين يتربون في الأحزاب الكبيرة، فيمتلكون الرسالة، ويمتلكون الحرفة أو المهنة. وما كانت البيروقراطية السياسية والإدارية الألمانية في نظره تفتقر للرسالة، بل تفتقر لتقنيات الاحتراف، لأنّ الوزراء والنواب كانوا يأتون في معظمهم من البيروقراطية الدولية، فلا يمرون بالانتخابات، ولا يُحسّون كثيرا بهموم الناس، ولا يحتاجون لتأييدهم، كما لا يخشون خذلانهم.
السياسيون اللبنانيون بعد الحرب الأهلية يفتقرون إلى الأمرين: الرسالة والاحتراف. فقد دخلت ميليشيات الحرب بعد الطائف إلى بنية الدولة، وأُضيفت إليها ميليشيا «حزب الله»، وميليشيا الجنرال عون. أما المحترفون القُدامى فقد صاروا نادرين مثل الكبريت الأحمر. وكيف يكون بوسع المدنيين العاديين الوصول إلى الإدارة والبرلمان والوزارات ما داموا لا يملكون المال ولا السلاح على طريقة العقيد القذافي في فهم «سلطة الشعب». السوريون حرسوا ميليشيات الحرب ونشروها في الحياة السياسية، وعندما أُخرجوا من لبنان، خلفتهم الميليشيا الإيرانية في السيطرة على الطبقة السياسية ولا تزال. السلاح يملكه الحزب، والمال يتقاسمه مع الأحزاب الطائفية التي صارت تابعة له كما كانت تابعة للسوريين.
لقد صوّر جبران باسيل كل تجاذباته مع الأميركيين على أنها مسألة ولاء: إمّا معنا أو مع «حزب الله»! ولأنه هو وعمّه يدينان للحزب بكل شيء، ومنذ عقدٍ ونصف العقد، فقد كان من البديهي أن يختار الحزب مرغماً وليس فرحاً! هو مرغَمٌ لأنّ زمان العزّ مضى وانقضى، فالإفلاس والفساد يضربان كل شيء ووزارة الطاقة التي تولاها العونيون منذ العام 2008 مسؤولة عن نصف الديْن العام. وهو يملك الكثير الكثير الآن، لكنه مَدينٌ هو وعمّه للحزب برئاسة الجمهورية وبكل الوزارات التي تولاها هو وأتباعه، والثروة التي راكمها ببراعته بالطبع، إنما بمظلة الحزب! وقصة باسيل الأُسطورية نموذج لكل الطبقة السياسية وما حصلت عليه بفضل الحزب سماحةً وسماحاً من أموال الناس وقرارهم! ثم يقول لنا زعيم الحزب إنّ كلّ فلوسه من إيران، ما أكرم إيران يا ناس!
المسيحيون اللبنانيون كثير منهم غربيو الهوى منذ ثلاثمائة عام وأكثر. وأعدادهم في العوالم الغربية بسبب الهجرة أكبر بكثير من أعدادهم في لبنان. وبمساعدة الغرب الأوروبي والأميركي أسسوا المصارف والجامعات والمدارس والمستشفيات ودولة لبنان وأسهموا في الحيوات الثقافية والإعلامية والإدارية في عددٍ من الدول العربية وغيرها. وكانت نخبهم عندما تتضايق تحط رحالها مؤقتا عند هذا الطرف أو ذاك في الإقليم، دونما تزعزع لولائها الأصلي والوجودي -إلاّ هذه المرة. فقد مضى البواسل إلى أعمق الأعماق في الولاء لإيران وميليشياتها ومن أجل النفوذ والفساد، والنأي عن العرب. ودفشتهم إيران أيضا باتجاه معاداة العرب والعالم. وشجعهم على ذلك تهافت معظم الطبقة السياسية باتجاه الزبونية الإيرانية وحزبها. وهم يقفون مع الحزب الآن في مواجهة ملايين اللبنانيين، ومواجهة العرب والغربيين. ولا أمل لهم إلا أن يخفف عنهم بايدن، واتفاق الحزب مع إسرائيل على ترسيم الحدود، بحيث يعودون إلى الغرب من طريق إيران!
وتسألون لماذا انحطّ العمل السياسي في لبنان، ولماذا هبّ الأميركيون «ذوو النزاهة» لإصلاحه؟!
الشرق الأوسط