- إطلاق نار من آليات الاحتلال شمال غربي مخيم النصيرات وسط قطاع غزة
في عملية تبدو للوهلة الأولى متناقضة لكنها متكاملة، يُعَرِّض أسرى حياتهم للخطر من خلال خوضهم إضرابات عن الطعام من أجل هدف سام هو الحريّة والحياة الكريمة، وليس حياة داخل السجن ولأجَل غير محدد ومن دون تهمة ودونما أي إجراء نزيه. بغض النظر حاليًا عن معنى العدالة وإمكانية العدالة، التي مُمكن أن يحصل عليها المعتقل السياسي في محكمة عسكرية تمثل نظام احتلال عسكري، فإن هناك فارق أساسي بين الاعتقال الإداري والاعتقال السياسي العادي. ففي حين يؤدي الأخير في غالبية الحالات إلى تقديم لوائح اتهام وإلى صدور أحكام – غير عادلة لكنها مُحددة زمنيًا، بمعنى أن الأسير يعرف متى يكون تاريخ التحرر من السجن، فإن ما يميز الاعتقال الإداري أنه دون تحديد موعد انتهاء فترة المحكومية، ودون أن يعرف المعتقل متى سيتمّ الإفراج عنه، بل يمضي المعتقل أيامًا وحتى شهور وسنين يتجدد فيها أمر اعتقاله دون أية محاكمة ودون معرفة التهمة، لأنه لم تقدم لائحة اتهام ضده. وغالبًا، يجري الاعتقال الإداري بحجة الحيلولة من احتمال قيام المعتقل الإداري بفعل مخالف للقانون مستقبلا يهدد الأمن.
ويُطبق الاعتقال الإداري على الفلسطينيين وفق أنظمة وقوانين مختلفة بناء على مكانتهم السكانيَة وموقعهم الجغرافي والسياسي. ففي الضفة (باستثناء القدس الشرقية) يجري الاعتقال الإداري بناء على "مرسوم بشأن تعليمات الأمن" (رقم 1651)"؛ ولاعتقال أشخاص من سكّان قطاع غزّة إداريًا تستخدم إسرائيل "قانون حبس مقاتلين غير قانونيّين". أما الاعتقال الإداري ضد مواطني الدولة وسكانها، فيتم وفق قانون صلاحيات حالة الطوارئ (اعتقالات). في الضفة الغربية المحتلة يملك القائد العسكري للمنطقة صلاحية إصدار أمر الاعتقال الإداري (بند 273أ) وصلاحية تمديده في كل مرة لستة أشهر إضافية (بند 273ب)، ولا يحدد الأمر مدة تراكميّة قصوى للتمديد، مما يتيح إمكانيات استمرار الاعتقال الإداري لسنوات.
موقف المجتمع الدولي
في حين أن القانون الدوليّ لا يحظّر الاعتقال الإداري بحدّ ذاته، إلاّ أنّه لا يسمح به إلا في ظروف استثنائية ووفق ضمانات صارمة. وقد طالب خبراء من الأمم المتحدة "إسرائيل بإلغاء هذا النوع من الاعتقال الإداري الذي يحرم الأفراد من ضمانات الإجراءات القانونيّة الأساسية الواجبة". وأكدّوا على أن "الاعتقال الإداري الذي تمارسه إسرائيل على نطاق واسع يتعارض مع القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان". كما دعت لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، يوم 13 أيار 2016، حكومة إسرائيل إلى أن "تُعجّل باتخاذ التدابير اللازمة لإنهاء ممارسة الاحتجاز الإداري وضمان منح جميع الأشخاص رهن الاحتجاز الإداري حاليًا كل الضمانات القانونية الأساسية". وتشمل اتفاقية جنيف الرابعة التزامات تجاه حماية حقوق الإنسان وفرض تطبيق القانون الدولي الإنساني، خصوصًا في الحالات التي تُرتكب فيها "مخالفات جسيمة" في زمن الصراع والاحتلال.
الاعتقالات الإدارية
تعرض ويتعرض آلاف الفلسطينيين للاعتقال الإداري، وما دام الاحتلال قائما سيبقى الفلسطينيون عرضة للاعتقالات الإدارية. ليس الأسير ماهر الأخرس (49 عامًا) المضرب عن الطعام منذ ما يقارب الـ81 يومًا، احتجاجًا على أمر اعتقاله إداريًّا. ماهر الأخرس ليس المعتقل الإداري الأول الذي يخوض إضرابًا احتجاجيًا عن الطعام ولن يكون الأخير. بل ينضاف هذا الإضراب لسلسلة من الإضرابات عن الطعام طويلة الأمد التي عرّضت حياة الأسرى للخطر، ورغم ذلك كانت هذه الأداة الأنجع لوقف اعتقالهم إداريًا. فلماذا يعرّض هؤلاء الأسرى حياتهم للخطر؟
حين يقرر الأسير خوض إضراب عن الطعام، يدرك جيدًا أنه من الصعب التراجع عنه، ويعرف تمام المعرفة أنه يعرض حياته للخطر، لكنه يختار هذا الطريق احتجاجًا على الاعتقال الإداري ويتحول جسده لساحة المعركة الأخيرة، إما أن ينتصر فيها وإما تنتصر دولة الاحتلال، التي تحاول أن تقمع الإضراب أحيانًا بالقوة من خلال التهديد بالإطعام القسري، والذي يبلغ بتعريفه حدّ التعذيب؛ وأحيانًا أخرى بالمراوغة ومن خلال محاولة تنفيذ "صفقة – تسوية" يتوقف في نهايتها المعتقل عن إضرابه أو يعلقه. وأحيانًا تأخذ المحكمة دورًا مساعدًا في تنفيذ وتطبيق هذه التهديدات أو هذه "الصفقات – التسويات". يخضع الاعتقال الإداري للمراجعة القضائيّة، ولكنّ في غالبية الحالات لا تؤدي إلى إبطال أمر الاعتقال، إذ تصادق عليه المحكمة في معظم الأحيان وعلى أمر تجديده وتتبنى ادعاءات الدولة.
استنادًا إلى إحصائيات مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الانسان، بلغ عدد المعتقلين الإداريين في شهر أيلول من العام الجاري 350 معتقلا من مجمل 4400 أسير سياسي. وحسب تقرير "بتسليم" (مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة) في فترة الانتفاضة الثانية، كان جهاز الأمن يحتجز في آنٍ واحد أكثر من ألف معتقل إداريّ. ومنذ احتلال الضفة والقطاع وتطبيق الحكم العسكري، صدرت عشرات آلاف أوامر الاعتقال الإدارية بحق الفلسطينيين.
تعامُل القضاء
المثير في قضية الأسير ماهر الأخرس هو موقف المحكمة العليا الإسرائيلية والمسوّغات التي طرحتها كي لا تلغي أمر الاعتقال، رغم وجود الأسير في دائرة الخطر الصحي - خطر الموت، وهو الأمر الذي تبذل مصلحة السجون والنيابة والمحاكم جهدها لكي لا يحصل، فيُشرّع الاعتقال وانتهاك الحقوق وضمنها الحق بالمقاضاة، وتشهد حالات الإهمال الصحي على السياسات المتبعة. لكن قضية أن يموت أسير في السجن هو أمر آخر تتعامل معه هذه المؤسسة بحذر شديد وتفضل ألا يحصل، حتى لو اضطرت أن تأخذ قرارا بالإطعام القسري الذي يصل حد التعذيب المحظور، إذ أجمعت العديد من المنظمات الحقوقية والطبية العالمية على أنه يخالف مبادئ حقوق الإنسان والمواثيق والقوانين الدولية.
وكانت لجنة أخلاقيات المهنة للأطباء في مستشفى كابلان حيث يرقد الأخرس، قد أعطت الموافقة يوم العاشر من أيلول الماضي على إطعام الأسير الأخرس قسريًا، إلا أن الأطباء لغاية يوم 14 أيلول الماضي امتنعوا عن تطبيق ذلك بسبب اعتراض الأخرس.
وكانت المحكمة العليا الإسرائيلية بتركيبة ثلاثة قضاة قد نظرت في التماس (رقم 6369/20) قدمته محامية الأخرس، الزميلة أحلام حداد، عقب تدهوُر وضعه الصحّي، طالبت فيه بإلغاء أمر الاعتقال الإداري. في 23 أيلول الماضي قرّر القاضيان عميت وغروسكوبف (خلافًا لقرار القاضي مينتس) أنّه "استقرّ رأيهما" على أنّ اعتقال ماهر الأخرس إداريًّا مبرّر تمامًا، بعد أن "تبين لهما أن له دورًا في عمليات تهدد أمن المنطقة والتحريض بشكل متطرف".
وشدد القضاة في قرارهم على أن "الإضراب عن الطعام، بحد ذاته، لا يمكن له أن يكون عاملا عينيًّا في قرار الاعتقال الإداري بحد ذاته..."، لكنهما أكدا على أنه وبالنظر إلى وضعه الصحي، فإن الأخرس لا يشكّل خطرًا بعد. لذا قرروا أنه "في الوقت الحالي يمكن تعليق القرار" وبإمكان أبناء العائلة المقربة زيارته، ليس كمعتقل، وذلك وفق تعليمات الصحة العادية السارية بالمستشفيات. وشددوا القضاة على أنه حين تتحسن صحة الأخرس بإمكان الدولة أن تجدد وتمدد اعتقاله إداريًا. بالتالي يمكن القول إن "الغاية الوقائيّة" من اعتقاله إداريًّا قد بطُلت وكان بالإمكان إطلاق سراحه. عمليًا، لجأ القضاة إلى هذا الحل الذي أوجدوه، "تعليق" أمر الاعتقال الإداري، ليمتنعوا عن إطلاق سراحه او انتقاد إجراء الاعتقال الإداري، وبذلك سوّغوا "شرعية" استمرار ممارسته.
جدير بالتنبيه هنا إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي ترفض فيها الدّولة الإفراج عن معتقل إداريّ يوشك على الموت جرّاء إضراب عن الطعام يخوضه احتجاجًا على اعتقاله.[4]
وقد دعا "مجلس منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية" المجتمع الدولي والأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة إلى الوفاء بالالتزامات الواقعة على عاتقها تجاه حماية حقوق الإنسان، وفرض إنفاذ القانون الإنساني الدولي، ولا سيما في الحالات التي تُرتكب فيها مخالفات جسيمة في أوقات الصراع والاحتلال. ودعا مجلس المنظمات إلى "إنفاذ التدخل الفوري لولايات الإجراءات الخاصة للأمم المتحدة، بما تشمله من ولاية المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، السيد مايكل لينك، والفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي". ونشرت المنظمة العربية لحقوق الإنسان على موقعها بيان مركز الميزان الذي يرى في استمرار عمل سلطات الاحتلال بسياسة الاعتقال الإداري، تجاوزًا خطيرًا لالتزاماتها الناشئة عن توقيعها على الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، خاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي أكد على سريان حكم محكمة العدل الدولية الصادر يوم التاسع من تموز 2004 على الأراضي الفلسطينية المحتلة. وأكدت مؤسسات حقوقية إسرائيلية منها اللجنة العامة لمناهضة التعذيب على حق الأخرس بمعرفة أسباب اعتقاله أو إطلاق سراحه.
ويبقى السؤال هل ستتحرك مؤسسات المجتمع الدولي من أجل الضغط على إسرائيل لوقف استخدام الاعتقال الإداري، وهل سيتم إنقاذ حياة الأسير الأخرس قبل فوات الأوان؟!
عن "عرب ٤٨"