عادة ما تكون انتخابات الرئاسة الأميركية التي يواجه فيها الرئيس منافسا من الحزب الآخر، والتي هي بالنسبة له انتخابات الولاية الثانية، أو تجاوزاً انتخابات التجديد، أقل صخبا، لأنها غالبا ما تنتهي بإعادة انتخاب الرئيس، الذي يضفي عليه وجوده في البيت الأبيض هالة وحضورا، يكون من الصعب على منافسه تجاوزه، أو تخطيه والفوز عليه، خاصة أن المنافس نفسه يكون قد خرج لتوه، غالبا قبل أسابيع من مواجهة الرئيس المرشح، من خضم معركة ترشيح الحزب، أما هذه المرة، أي على طريق الانتخابات التي ستجري بعد اقل من خمسة أشهر، فإن احتمالات فوز المنافس على الرئيس الحالي دونالد ترامب تبدو حقيقية إن لم تكن مرجحة، ما لم يطرأ أمر ما يغير من المزاج الانتخابي العام في اللحظة الأخيرة.
أي أن ترامب يواجه تحديا حقيقيا من قبل منافسه، جو بايدن، بعد أن استقر الحزب الديمقراطي على ترشيح نائب الرئيس السابق باراك أوباما، مبكرا نسبيا، وهو الشخصية المتزنة سياسيا، على عكس الرئيس ترامب، والذي أمضى نحو نصف قرن عضوا في مجلس الشيوخ، إضافة إلى كونه نائبا سابقا للرئيس، وفعلا منحت استطلاعات الرأي تفوقا لبايدن على ترامب بلغ 10% خلال الشهر المنصرم، بعد أن كان مجرد 5% في شهر نيسان الذي سبقه، أي قبل ان يظفر رسميا بترشيح حزبه الديمقراطي.
ترامب نفسه أعاد سبب تفوق خصمه عليه، إلى إجراءات عزله على خلفية التحقيقات التي أجراها نواب الكونغرس بأغلبيتهم الديمقراطية، لكن في حقيقة الأمر، فإن ذلك ليس هو السبب الوحيد، فقد راهن ترامب على تحقيق إنجازات اقتصادية من خلال فتح أبواب الحروب التجارية مع المنافسين الدوليين، بهدف ضخ الأموال لداخل المجتمع الأميركي، وفعلا حقق إنجازا من خلال السطو على المليارات العربية، خلال أول سنة من حكمه، لكنه في مواجهة الخصوم الأقوياء، نعني الأوروبيين والصين وحتى روسيا، انقلب سحره عليه، فجاءت جائحة كورونا، وإخفاقه في إتباع سياسة واقعية متزنة تجاهها، ليذهب بإنجازه السابق أدراج الرياح، ثم كان لرفعه راية كراهية الآخرين، السبب في أن تطل العنصرية مجددا برأسها في بلاده، ما أطلق العنان لحالة الاحتجاج غير المسبوقة منذ عقود في الولايات المتحدة نفسها.
وحيث إن كراهية الآخرين تبدأ عادة بمن هم في الخارج، إلا أنها لا تتوقف عند حدود، فسرعان ما تطال من هم بالداخل، وتتبع مواقف ترامب تجاه الخصم التاريخي لحزبه الجمهوري، يشير إلى أنه يراهم غالبا أعداء أكثر منهم خصوما سياسيين، فحينا ينعتهم بالشيوعيين أو الاشتراكيين، وكثيرا ما يستخف بهم، ويشكك في ولائهم لبلادهم، وأخيرا ينعتهم بعديمي الفائدة، مع أنهم يمثلون نصف الشعب الأميركي، ويمثلون طول الوقت مع حزبه معادلة الديمقراطية الأميركية القائمة على تداول السلطة بين الحزبين.
لا شك بأن الشعب الأميركي بات قلقا على مستقبله مع وجود ترامب في البيت الأبيض، وبات قلقا أكثر على منجزاته الداخلية، خاصة فيما يخص جذور العنصرية، فالشعب الأميركي مكون من خليط أممي، وليس من أصول عرقية واحدة، لذا فإن العنصرية تعتبر العدو اللدود للدولة بكل مكوناتها، والشعب الأميركي يدرك جيدا، بأنه هو من يمكنه فقط أن يضع حدا لخطر حقيقي بات يهدد الدولة، بحجة محاولة الإبقاء على تفوقها القومي في منافسة الآخرين في الخارج.
كان ترامب وطاقمه يمنون النفس، بالذهاب إلى انتخابات تشرين الثاني القادمة بثقة، لذا فقد راهنوا على منجز تجاه إسرائيل، وبعد أن عانت إسرائيل داخليا من عدم حسم انتخاباتها البرلمانية طوال العام 2019، اضطر مع نهاية شهر كانون الثاني الماضي إلى إلزام الخصمين، نتنياهو وغانتس، بالموافقة على صفقته السياسية، وتدخل لإجبارهما على الشراكة في الحكم، حتى يكون ذلك عاملا مساعدا لفوزه في الانتخابات القادمة.
لقد ارتبط كل من ترامب ونتنياهو إذاً احدهما بالآخر، في المصير، لذا فإن الدور على نتنياهو الآن ليرد الدين، من خلال الإعلان الحكومي الخاص بالضم، لكن من المؤكد أن كلا الرجلين كان يفضل مواجهة خصوم سياسيين على الطاولة، فيما دخول العنصر الشعبي، من خلال الاحتجاجات والتظاهرات، إن كان في أميركا أو في إسرائيل، على الخط، يربك حساباتهما، ويجعل الجميع أمام أحد خيارين لا ثالث لهما، فإما الدولة وإما الحاكم.
ليس أمرا عابرا أو عديم الأهمية أن تعود ساحة رابين في تل أبيب للتظاهر ضد حكومة اليمين وسياستها الخاصة تجاه الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين، والذي يبلغ ذروته في التحضير لإعلان الضم، وليس أمرا بلا معنى أن تتضامن العديد من المدن الأوروبية والغربية وصولا إلى أستراليا مع الشعب الأميركي ضد العنصرية وضد استبداد الشرطة بتحريض من إدارة ترامب، فالشعوب من الواضح بأنها لا تكتفي بإعلان حكوماتها عن معارضتها لسياسة ترامب الخارجية التي زرعت التوتر في غير مكان، كما أن الاحتجاج الإسرائيلي الداخلي جاء ليعوض إخفاق النخبة السياسية عن وضع حد لحكم نتنياهو عبر صناديق الاقتراع، وردا على انهيار المراهنة على غانتس وحزبه، بعد أن وقفوا معه وصوتوا له من اجل إسقاط رئيس حكومة المستوطنين، لذا فإنه يمكننا القول، إن كل هذا الصخب سيحدث فارقا سياسيا، لعل بوصلته تشير إلى فلسطين، التي رفعت راية العصيان وعدم الرضوخ وشق عصا الطاعة، تجاه الثنائي ترامب ــــ نتنياهو منذ ثلاث سنوات، أي حين حنى الجميع رقابهم لترامب المخيف!
نقصد بذلك، أن الاحتجاج الشعبي الأميركي يشل من قدرة ترامب على دعم نتنياهو في قرار الضم، دون أن يكون ذلك هدفا مباشرا للشعب الأميركي العظيم باحتجاجه وثورته، كذلك مع الرفض الأوروبي والضغوط المتعددة، حيث يمكن أن يعتبر تكتيك «عرقلة» قرار الضم، بتأجيله، أي عدم خروجه للعلن مطلع الشهر القادم، إنجازا، فكل المعادلة يمكن أن تتغير مع نهاية العام، وحتى قبلها، إن جرت إدانة نتنياهو، فقط بقي العنصر الناقص، متمثلا في إسناد الجهد السياسي والأداء الرسمي الفلسطيني العظيم، بجهد شعبي، أقله وأهمه إطلاق التظاهرات في الضفة الغربية وقطاع غزة، ضد إعلان الضم المرتقب، وهنا لا بد من ملاحظة هز «حماس» لأكتافها، بشكل غير مسؤول وطنيا، فليس المطلوب هو تنفيذ عمليات النخبة العسكرية، بل إطلاق جماهير الشعب، لبث الأمل في أوساطها، لتواجه المستوطنين على أقل تقدير.