بكل حزم، قامت قبل أيام القوات البحرية وسلاح الجو الصيني، بطرد المدمرة الأميركية «يو إس أس باري» من المياه الإقليمية الصينية، حين اخترقتها، قبالة جزر شيشا، وذلك بعد أن كانت الولايات المتحدة قد أعلنت نهاية الأسبوع الماضي، أنها أرسلت سفينة حربية إلى مضيق تايوان، لإظهار التزام الولايات المتحدة بأن تكون منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرة ومفتوحة للملاحة البحرية. هذا في الوقت الذي تتزايد فيه حدة التوتر بين القطع البحرية الأميركية والزوارق الحربية الإيرانية في مياه الخليج العربي، خاصة بعد إعلان الرئيس الأميركي بأنه أمر سفنه البحرية بإطلاق النار على الزوارق الإيرانية، ليرد عليه الرئيس الإيراني، بالقول، إن «الخليج سيبقى فارسيا، ولن يتحول إلى خليج نيويورك أو واشنطن».
من يقارن قدرة الولايات المتحدة، الدولة التي تعتبر من أكثر الدول من حيث انتشار قواتها العسكرية بحرا وبرا، في جميع أنحاء العالم، بين «سطوتها وجبروتها»، اليوم، وبين ما كان عليه حالها قبل عقود ثلاثة مضت، فإنه لا بد أن يخلص إلى نتيجة مفادها، بأن شمس الولايات المتحدة قد غربت سريعا، وأن الإمبراطورية الأميركية تعتبر، اليوم، في حالة احتضار، تشبه ما كانت عليه بريطانيا العظمى بعد الحرب العالمية الثانية.
قبل ثلاثة عقود وفي عهد الرئيس جورج بوش الأب، تمكنت الولايات المتحدة من إرسال أسطولها البحري وقطعها العسكرية، وجنودها على رأس ثلاثين دولة، وبتفويض من الأمم المتحدة، لتقاتل العراق، بل حتى لتحتل جنوبه، العام 1991، وتفرض عليه حظرا جويا، محددا بخطوط العرض التي فصلت جنوبه وشماله عن الوسط، حيث العاصمة بغداد التي حوصر النظام فيها، ومن ثم فرْض حصار عليه استمر أكثر من اثني عشر عاما، حتى تمكنت الولايات المتحدة مجددا، وفي عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن العام 2003، من احتلال العراق كله، بما في ذلك عاصمته بغداد، دون كلمة احتجاج دولية واحدة.
وفعلت أميركا الشيء نفسه في أفغانستان، التي ما زالت تحتلها حتى اللحظة، وهي الدولة التي تعتبر ضمن المجال الحيوي لروسيا، حتى أن موسكو تورطت يوما ما في التدخل العسكري فيها وإرسال قوات عسكرية روسية إليها من اجل حماية نظام حكم موال لها، وتسبب ذلك في خوض المجاهدين الأفغان حربا قاسية ضد الوجود العسكري الروسي، كما يفعلون، اليوم، ضد الوجود العسكري الأميركي.
بعد ثلاثة عقود، لم تعد روسيا فقط، خارج بيت الطاعة الأميركي، ولم يقتصر الأمر على فنزويلا أو إيران أو كوريا الشمالية، في تحدي الولايات المتحدة، ورفض سياساتها القائمة على القهر والإخضاع، بل إنها ومنذ تولى الجمهوري الثالث، خلال العقود الثلاثة الماضية، مقاليد الرئاسة ورغم ما أبداه من رغبة في توتير الأجواء، وفي فتح العديد من جبهات الصراع الاقتصادي، وحتى التهديد بالحرب في أكثر من مكان، إلا أنه جبن وتراجع، ولم ينجح في تحقيق الهدف الأميركي المتمثل بإخضاع الدول التي تحدّت الجبروت الأميركي، لم تنجح واشنطن في إسقاط نظام نيكولاس مادورو، رغم دفعها لرئيس البرلمان للتمرد، والى إعلان نفسه رئيسا، ولم تستطع أن تجبر كوريا الشمالية على التراجع عن متابعة برنامجها النووي، ولم تفلح في وقف النمو الاقتصادي الصيني، كما لم تستطع أن تقطع الطريق على عودة النفوذ الروسي كقطب دولي، في أكثر من ملف، بل إن روسيا في سورية وليبيا أكثر نفوذا من أميركا، وروسيا التي تهدد أميركا، اليوم، بالرد النووي على أي هجوم أميركي تستخدم فيه الصواريخ البالستية، هي غير روسيا أيام بوريس يلتسين، تماما.
ولعل العنوان الأميركي الحالي، نقصد الرئيس دونالد ترامب خير عنوان على ما هي عليه «أقوى دولة في العالم»، والذي يبدو كما لو كان رئيسا كاريكاتوريا، أو قائدا أهوج، مهزوزا، ويعود ذلك بشكل كبير إلى فشله في تحقيق أي تقدم ـــ كما أسلفنا ــــ في أي من الملفات التي سارع إلى فتحها، منذ وصوله للسلطة، وحتى في الملف الوحيد الذي تباهى قبل أيام بتحقيق المنجز فيه، وهو الملف الإيراني، حيث قال، إن إيران قبل دخوله البيت الأبيض، كانت تطمح للسيطرة على الشرق الأوسط، أما اليوم فهي بالكاد تحافظ على نظامها، لكنه لم يقل، لماذا، لم يجرؤ على شن الحرب عليها، رغم أن إسرائيل كانت قد حرضته على فعل ذلك، تماما كما كانت قد فعلت مع جورج بوش الأب العام 1991، تجاه العراق، فلماذا كان باستطاعة أميركا أن تشن الحرب على العراق، ولا تقوى على فعل الشيء ذاته تجاه إيران؟!
ثلاثة عقود يبدو أنها كانت كافية لوضع حد لنظام عالمي «جديد» أقامته الولايات المتحدة، بعد إعلان انتهاء الحرب الباردة، بتفكك الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية، حيث إن أميركا ظنت بأن نظامها لا بد أن يرتكز على زعامتها للعالم منفردة، بما يعني وضعها فوق رؤوس جميع دول وشعوب العالم، فوقفت في طريق حقوق الآخرين بالمساواة والعدالة، لتجد نفسها دائما في طريق طموحات الأوروبيين بتحقيق الوحدة الأوروبية، والصينيين بتحقق النمو الاقتصادي، والفنزويليين في التمتع بثروة بلادهم، والفلسطينيين في الحرية والاستقلال، والروس في استعادة التوازن، بل ودفعت البشرية جمعاء إلى أتون فجوة طبقية لم تشهد لها البشرية مثيلا، حيث نشأت ظاهرة المليارديرات العالمية، حيث نحو ألفي شخص باتوا خلال عصر التفرد الأميركي بزعامة العالم، يمتلكون نصف ثروة البشر.
في الحقيقة، فإن تحدي عدد من الدول، التي تناصبها الولايات المتحدة العداء، بحيث دخلت معها في حروب الأعصاب، أي الشد والرخي، والضغط المتواصل، حيث اتبعت أسلوب الحصار والمقاطعة الاقتصادية كأداة لتحقيق هدفها، كما فعلت مع العراق لإخضاعه لمشيئتها، نقول تحدي تلك الدول يعبر عن توق ليس شعوبها فقط، بل معظم البشر على هذه الأرض، للتحرر من الهيمنة الأميركية الطبقية، التي وضعت من خلالها نخبة من الأثرياء فوق مليارات البشر، وانحازت إلى مليارات الدولارات ضد مليارات البشر، لذا فإن وضع حد للنظام العالمي الأميركي، يفتح الباب أمام نظام عالمي أكثر عدالة وتوازنا، حتى تجد الشعوب لها مكانا فيه، وحتى تجد العدالة طريقها إليه، وحتى نجد ـــ نحن الفلسطينيين ــــ فيه دولتنا المستقلة، التي لم تجد لها مكانا في نظام العالم الأميركي المتهالك، والذاهب إلى نهايته المؤكدة غير مأسوف عليه.