لا يمكن لأي بلد محتل أن يكون بمنأى عن أي صراع تخوضه القوة أو القوى التي تحتله. هذا بالضبط ما أثبتته الضربة الأمريكية الأخيرة التي انتهت بمقتل قاسم سليماني، وهو ما أثبته أيضاً اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد قبل ذلك بوقت قصير.
ولعل ذلك يؤكد ما كنا نذهب إليه سابقاً وما كان ينفيه أصحاب الشعارات والرؤوس الحامية الذين كانوا يصرون على تصنيف العراق باعتباره دولة مستقلة وحرة بعد سقوط النظام السابق.
واقع الأمر أن بلاد ما بين النهرين خضعت طيلة السنوات التي أعقبت سقوط بغداد إلى احتلال قوتين أجنبيتين تقاسمتا وظيفياً في استثمار نتائج السقوط والهيمنة على أرض العراق وشعبه العربي، وهما الولايات المتحدة وإيران.
أكد الحدثان الأخيران انتهاء الشراكة الأمريكية – الإيرانية في احتلال العراق، وانتقال قوتي الاحتلال من حالة التقاسم الوظيفي إلى حالة المواجهة الميدانية المباشرة وتبادل الضربات الموجعة بعيداً عن الترابين الأمريكي والإيراني، وهو أمر مريح لكليهما لأنه يعفيهما من حرج الرد حين لا يكون الرد ممكناً، ويمكنهما من تقديم تنازلات لا تكون على حساب أي من شعبيهما.
ويبدو أن الطرفين الأمريكي والإيراني اكتشفا، على وقع الحراك الشبابي العراقي، أن هناك جيلاً عراقياً جديداً اكتشف زيف الرهان على حرية قادمة من واشنطن، وأن هذا الجيل اكتشف أيضاً عقم ولاية الفقيه وعجزها عن إخراج العراقيين من جلدهم العربي.
هذا ما عبر عنه الحراك الشبابي في بغداد والبصرة وحتى في النجف التي اضطرت مرجعيتها إلى إعلان الانحياز لمطالب العراقيين التائقين إلى الحرية الحقيقية وإلى العيش بكفاية وكرامة على ترابهم الوطني، وهو ما يعني بالضرورة الخلاص من الاحتلالين الأمريكي والإيراني، وهما احتلالان متساويان في الضرر وإن اختلفا في الشكل.
وربما نذكر أن ممثليات إيرانية تعرضت لهجمات الحراكيين قبل الهجوم على السفارة الأمريكية في رسالة واضحة إلى الخيار الثالث، وهو الخيار الأصيل المغيب بمؤامرات النخب الارتزاقية التي حكمت العراق بعد الاحتلال. أعني العودة إلى الجذر الخير الوحيد وهو الجذر العربي المتأصل في أهم حواضر العرب على ضفاف الأنهار.
نعم، هناك مواجهة بين أمريكا وإيران في العراق، لكن هذه المواجهة لا تعني العراقيين والعرب إلا في هوية ميدانها وما تلحقه بأهل البلاد من مآسٍ وكوارث وخسارات بشرية ومادية. ومن يتحمس في الاصطفاف مع طرف ضد آخر في هذه المواجهة يبتعد عن قضيته، وهي قضية الحرية المسلوبة في العراق وفي فلسطين وفي أجزاء من سوريا التي تشهد أرضها تقاسماً وظيفياً بين قوتي الاحتلال الأمريكي والتركي.
وإذا كان لهذه المواجهة دوافع عديدة تتعلق بمصالح الطرفين المتصارعين على حسابنا، فإن ما سارع في تفجيرها وإيصالها إلى هذا المستوى من الصراع هو الحراك الشبابي العراقي الذي بدأ مطلبياً وتطور سياسياً عندما ربط بين رغيف الخبز والهوية الوطنية والقومية ونفض عن جسد العراق ما علق به من آثام التغني بديمقراطية الغزاة ومفاتيح جنات آيات الله.
يدرك العراقيون الآن أن حريتهم الحقيقية مرتبطة بعروبتهم فقط، لذا يتجاوزون الطوائف ويقاومون التغريب والليبرالية الصهيونية التي مثلها أصدقاء بول بريمر في مواقع الإدارة في العراق الذي اعتبروه جديداً.